مواهب وابداعات للأستاذ: مومني عبد العالي

مرحبا بجميع القراء الأوفياء

الخميس، 16 فبراير 2012

أبو نوّاس ومطلع القصيدة العربيّة



          درج الشّعراء العرب في العصر الجاهلي على استهلال وبدء قصائدهم بالوقوف على الأطلال والبكاء على الأحبـّة، أو بالغـزل الـــذي أفـردوا لـه قصائد مستقلّّة بعد ذلك من أمثال امرئ القيس، وعنترة بن شدّاد، ولبـيد بن ربيعـة، وعـمـرو بن كلثــوم، والنـّابغة، والشـّنفرى،
والمهلهـل، والأعـشى وغيرهم كثير.

        هـؤلاء الشعــراء وغيرهم صوّروا الحياة في العصر الجاهلي تصويراً جميلاً رائعاً، تطمئن إليه القلوب، و ترتاح إليه ما في الصّدور، شأنهــم في ذلك شأن جميع شعراء العالم و قتئذ من فرس وروم وهنود ويونان الذيــن سبقـوهـم في الحضارة والإبـداع وفي العـلوم الكونيـّة خاصـة. وهـذا أمــيـر الشعراء العصر الجاهلي امرؤ القيس يستهل قصيدته مخاطباً صاحبيـه في معلقته الشهيرة، وهي عادة عند العرب ، إذ يقول :
قفـا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى، بين الدّخول، فحومل

        وهــو بذلك يـعاني ويشقى فعلاً لارتحال الحبيب عـن ذلك المـكان الذي كـان فيه مدّة، قد تطـول وقد تقصر، بحسب بيئته الصحراويّة التي تصـاب عادة بالقحط والجفـاء لقـــــلـة المـطـر، وهذه عـادة العـرب الـذين اتصفـوا بالحـــــلّ و التـرحـال طلبا للمـرعى و الكـلإ ، فكأنّـه بذلك يفقـد الأمـل في مـلاقـات الحبيب!!

       وعنتـرة بن شدّاد من شعراء المعلقات وصف في مستهل قصيدته أطلال الديار قائلا:
    
هل غادر الشّعراء من متردّم                   أم هل عرفت الدّار بعد توهّم ؟


    وعمــرو بن كلثوم في فخره الملحمي الذي هدّد فيه عمرو بن هند والذي قتله فيما بعد، بدأ قصيدته بوصف الخمــر والغــزل، وكـان يـرى أن هـذه المقدمة ضروريّة لشعره، إذ يقول :

ألا هُبِّي بصحنك فاصبحينـا                 ولا تـُبـقى خُمــور الأنــدريـنــا
مشعشعةً كـأنّ الْحُصُّ فـيهـا               إذا ما الماء خالـطــها ســخـيـنـا


   أما النابغة الذي عرف بشاعر"الاعتذاريات" فيستهلّ هو الآخر معلقته بالغزل الذي درج عليه الشعراء قديما، ولا يحـيـدون عن هــذه السنـن التي ألفوها وألفتهم، حيث يقول: 

يا دارَميّـة بالعلياء فالسّـنـد                    أَقْوَت، وطال عليها سالفُ الأبد
 وقفتُ فيها أَصَيْــانا أسائلهـــا                   عَيَّتْ جواباً، وما بالرّبع من أحد


والشّاعــر لبيـد بن ربيعة هو الآخر بدأ قصيدته بالوقوف على الأطلال على عادة الشعراء في العصر الجاهلي، إذ يقول :

عفتِ الدّيار محلُّها فمُـقامُها بمنـًى                 تأبــّد غَـوْلُها فَـرِجَــامُـها


فاستهلال الشاعر قصيدته بالوقوف على الأطلال سنة من سنن العرب في العصر الجاهلي، فدرجوا على ذلك ثم يخلصون إلى لبّ المـــوضــوع كعمرو بن كلثوم في ملحمته الشهيرة والتي يهدّد فيها عمرو بن هند قـــائلا له:

أبا هندٍ!فلا تجعل علينـا              وانظـرنـا نخـبّرك اليـقـيـنا!
بأنّا نورد الرّايات بيضا               ونصدرهن حمرا قد روينا!

ومثل لبيد بن ربيعة الذي وصف فيها الأتان والبقرة الوحشيّــة بعــــدما تعرض لحبيبته (نوار) ويصف النّاقة من ناحية سرعتها وقوّتها ،إذ يقــول:

واحب المجاملَ بالجزيلِ، وصُرْمُهُ              باقٍ، إذا ظَلَعَتْ وزاغ قوامُها
بطليـحِ أسفــارٍ تــركْـــن بــقـــيـــّة              منها، فأحنق صلبها وسنامُها


       يريد أن يقول: أنت قادر على قطيعة من ترك سبيل الاستقامة أو أذاك ، بأن ترحل على ناقة أعــيـتهـا الأسفــار، فـلـم تتـرك مـنها إلاّ بـقيّة، وقــد خمـر ظهرها و سنامها.
       
        ولبيد شاعر مخضرم عاش في الجاهليّة والإسلام كالخنساء وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وغيرهـم مــن الشــعـراء المـخـضــرمـين،إلاّ أنّ لبيدا والخنساء اشتركا في كونهما بعد اسلامهما أنّهما أنشغلا بالقرآن عن الشعر، على خلاف حسان بن ثابث وكعب بن مالك الّذيْن أسلما وحسن إسلامهـما، فدافعا عن الإسلام والرسول ــ صلى الله عليه وسلّم ــ بشعرهــم، فسـخّروه للرّدّ على شعراء قريش الذين أذُوا الرسول الكريم محمد ــ صلى الله عليــه وسلّم ــ وانتدب حسان وأمثاله للرد عليهم, وكان الرسول ــ صلى الله عليـه وسلّم ــ حين يسمع شعر حسان بن ثابث في كفار قريش يقول : " إنّ هذا الأشدّ عليهم من وقــع النَّبــل " ، وكــان ــ صـلى الله عـليـه وسلّم ــ يـدعـو لشاعره أن يؤيده في ذلك جبريل عليه السلام، إذ يقول : " أهجوهم وروح القدس معك".

         وكــان قبـل ذلك يتعجـب الـرسول ــ صلى الله عليـه وسلّم ــ من هجاه حسان ــ شاعر الرسول ــ قومه قريش ؛فيقول له : " كيــف تهجـوهــم وأنا منهم؟! " فيردّ عليه قائلا : " سأسلك منهم كما تسلّ الشّعرة من العجين ". وحق لهؤلاء الشعراء أن نطلق عليهم فعلا بشعراء الإسلام.
وفي العصر الأموي أضطربت أحوال النّاس وعادت العصبيّـة القبليّـة من جديد, وظهرت الأحزاب السياسيّة, فأصبح لكلّ حزب شاعره الخاص، فحاول خلفاء بني أميّة إلهاء الناس بالشعر والشعراء,فظهرت كوكبة منهــم وبخاصة شعراء النّقائض : الفـرزدق وجريــر والأخطــل. وبذلك انهـارت الخلافة الأمــويّة وجــاءت عــلى انقــاضها الخلافــة العـبـاسيّة، واستقرّت الأوضاع بعد جهد جهيد،واتسعت الرّقعــة الإســلاميّة، فدخــلـت أمــــم في الإسلام عن طـواعـــيـة وبخــاصــة الفــرس، فكان تأثير العنصر الفارسي واضـحا عـلى الحياة العـربيّة لسـببيـن: الأوّل يتمثّل في أنّ للفرس حضارة راقية من جهــة، وقربهم مـن شبه الجزيرة العربيّة ،منبع الوحي، من جهة أخرى. هاجر كثير مـن الفـرس إلى البــلاد العـربيّة وقـتـئـذ، وكانـت مدينة البصرة والكوفة وبغداد وجهة هؤلاء الناس ليتعلّموا اللغـة العــربيّة؛ لأنّـها ببساطة لغة القرآن الكريم.

         ومــن هـــؤلاء الـــوافــديــن مـن أصول فارسيّة نذكر على سبيل المثال لا الحصـر: بشّار بـن بــرد، وابن المقفــع، وسيبويـه ، وشــاعــر الخمـريّات بالخصوص أبي نوّاس والذي ولـد بالأهــواز من بلاد فــارس وقصد مدينة البصرة، وهي إحــدى الحــواضـر العربيّة التي ازدهرت فيها الثقافة،ورحل بعد ذلك إلى الكوفة، فأخذ علوم اللغـة والنحو والبلاغة عـن أئمتــها، وأجاد الشعر , ثم خرج إلى البادية لمدّة سنة مع قوم من بني أسد، فخالــط العـرب الأقحاح، وأخذ عنهم، فاستقام لسانه وفصح.

         وأبو نواس اشتهر بشعر اللهو والمجون والزنـدقـة والشعوبيّة ووصف كؤوس الخمــر، ورحلات الصيـد، كـما عرف بميله الشــديــد إلى أصـلــه الفارسي . يقال أنّه مرّ بمدائن كسرى، مع بعض أصدقاء السوء، وعــدلـوا إلى إيوان كسرى ، فأعجبهم ما رأوا فيه من آثار فارسيّة تدلّ على اجتمـاع ندامى قبلهم، فتـوقـفـوا عـنـد هــذا المكان الذي أعجبهم ،وشربوا فيه الخمر كثيراً، فطلبوا من الشاعر أبي نوّاس أن يصف لهم ذلك، فقال:
دََارِ نــدامــى عـــطّــلــوا وأدلـجـوا بــهــا أثـرٌ منهم :جـديـــدٌ ودارسُ
مَسَاحِبُ من جرّ الزّقاق على الثرى وأضغــاث ريحان : جنيّ ويابسُ
حبست بها صحبي, فجدّدت عهدهم وإنّي عــلى أمثال تلك لحــابـــسُ
تدار علينـــا الـرّاح في مـسـجــديّـة حبّتــها بــأنـواع التصاوير فارسُ
قــرارتــهــا كــسرى وفي جـنباتها مَهًــا تــدريــهـا بالقسيّ الفوارسُ
فأبو نوّاس يصف الدّار التي نزل بها مع أصدقائه وما بـقي فـــيــها من آثار الراحلين عنها بين آنية خمر وأعواد ريحـــان. ثــم وصف مجلسـه مع أصدقائه وهم يشربون الخمر في كؤوس فارسيّة مصنوعة من ذهب, وفيها تصاوير فارسيّة.
ومن هنا نستطيع أن نتعرّف على شخصية أبى نوّاس وطبعه من خـلال قصائده، فالرجـل عــاش أيّام شبــابه في اللهو والمجون والاستهتار، يقول الشعر في مجالس اللهـو كما مرّبنــا، وكان يدعو الشعراء إلى التخلّي عن القديم في كل شيء وخاصة في افتتاح قصائدهم بالوقــوف على الأطــلال، وأن يواكب ويساير هذا التغيّر الحاصل في الحياة الاجتماعية، فـقــال بهـذا الصّدد:
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم

وشعر أبي نوّاس يدل على مظاهر الحياة الاجتماعية في عصره وبيئته ، فكان هناك اندفاع قويّ لبعض الناس إلى اللهو والغناء والمـتـعـة متأثرين في ذلك بتيّار المجون الذي وفد على العنصر العربي من الأمم التي دخلـت هذا الدين الجديد وبخاصة العنصر الفارسي بحـكـم الموقع الجغـرافي لهـم، مع العلم أنّ العصر العباسي الذي عُرف بالعصر الذهبي لازدهــار الحيــاة الاجتماعية أوّلا ثمّ الأدبيّة ثانية وعلوم اللغـة والعــلــوم الكــونيّة ــ ســادته الحريّة الواسعة ــ بما فيها حريّة المعتقد ــ مما جعل بعض الشعراء في هذا العصر يجاهرون بمثل هـــذه الأفـــكــار والآراء المتطرّفــة والتي هي في الحقيقة منافية للدين الإسلامي الحنيف، والآداب العامة.
وأبــو نوّاس بأسـاليـبـه ومعــانيـه قد عدل عن كثير من أساليب العرب ومعانيهم وأوصافهم وسننهم ، فســار بعض الشـعــراء على هــذا المنــوال ، فتأثروا به، ونقلوا معانيه، فقال عنه أبو عبيدة: " أبو نواس في المحدثيـن مثل امرئ القيس في المتقدمين فتح لهم هذه الفطن، ودلّهم على المعـــاني ، وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه ".
وانظر إلى الشاعر حين رسم لنا لوحة فنيّة رائعة، أعجـب بهـا النّــاس أيّما إعجاب، ولم يسبقه إليها أحد من قبل، وهذه اللـوحة تتجـلى في وصـفه للكأس في حال فراغها وامتلائها:

تدار علينا الرّاح في مسـجديّة
                                حبتها بأنواع التصاوير فارس
 قرراتها كسرى وفي جنباتهـا
                                  مها تدّربها بالقـسيّ الفــوارسُ
فللرّاح ما زُرّت عليه جيوبها
                                    وللماء ما دارت عليه القلانـسُ


         فهو بذلك بفضل أطلال الحاضرة على أطــلال البــادية التي أعـلـن ثورتـه وتمرّده عليها في كثير من قصائده.

         فبقدر ما يتضائل عنده الأصل العــــربي وأمجادهـــم ورفعتهــم وأصلـهــم وفصلهم بقدر ما يرفع ذلك من شأنه بين الناس وبخاصة الذيـــن دخـلوا في هذا الدين الجديد من فرس وروم و أمازيغ وغيرهم من الشعـوب والأمــم، لذلك نرى الشاعر يهاجم العنصر العربي في أصالته وقيمه النبيلة كالكــرم الذي كان ولا يزال محل افتخار كل عربي أصيل إلى يومنا هــذا، فــقـــال أبو نوّاس في هذا الشأن:

فقلت له: ما الاسم؟ قال: سموءل
                                             لكنّتـي أكـنى بعَمـرو، ولا عُمرا
ومـــا شــــرّفـــتــنــي كــِنــيــةٌ
                                             ولا أكسبتني لا ثنــاء ولا فــخــرا
فقلت له عجبا بظرف حديــثـــه
                                            أجدت، أبا عمرو،فجوّد لنا الخمرا


        ومعلوم أنّ بعض الأسماء في العصر الجاهلي قد ارتـبطــت بصفــات حميدة وأخلاق رفيعة حتى أصبحت مضرب المثل فقالوا مثلا: " أجود من حاتم و أوفى من السّموءل...

        وهذا دليل على استخفاف الشاعر وسخريته حتى من الأسماء العربيّـة ، وبـخـاصـــة المشهــورة منها، ويرافق ذلك دائــماً بالتحريض على اللهـو والمجون كما هو واضح من خلال هذه الأبيات وغيرها، وهــو يفعــل ذلك جهرا دون حياء منه، وهذا ما يتحرّج منه النّاس في ذلك الوقت ويرون فيه عاراً ما بعده عار.

       فهذه المظاهر السلبيّة عند الشّاعر من شعوبيّة ولهو ومجون وزنــدقـة وإباحيّة تعود في الأساس إلى أصله الفارسي والذي ضاع ــ حسب ما يرى الشاعر ــ عند دخولهم عن طواعية إلى الإسلام , فضاع بذلك ملك أجداده، وأصبح الشعراء يقفون على مدائن كسرى كمـا فــعــل الشــاعـر الــعـربيّ الصميم البحتري. والعرب يفتخرون بأصلهم وفصلهـــم كـمــا حــدث بـيـن الفرزدق و جرير في شعر " النقائض " ، إلاّ أنّ أبا نوّاس حاول في شعره أن يوهم الناس ومن حوله بأن الأصل لا قيمة له، فـراح يسخر مـن بعـض القبائل العربيّة والتي كان الشعراء العرب يفخرون بها، والانتساب إلــيـها، فجاءت في أشعارهم مثل قبيلة أسد، وتميم وقيس وغيرهم كثير، حيث قال:

عاج الشّقيّ علـى رســم يســائـلـه
                                         وعجت أسأل عن خمـارة الـبـلـد
يبكي على طلل الماضين من أسد
                                         لا درّ درّك، قــل: مــن بنو أسد؟
ومن تميم ومـن قيـــس ولفــهــمـا
                                               ليس الأعاريب، عند الله، من أحد


          فالإباحيّة والشعوبيّة واللهو والمجون بادية جليّة واضحة في شعر أبي نوّاس، والغريب في الأمر أن الرجل لا يتصرّف تقليدا لغيــره مـن شعـراء المجون واللهو والعبث الذين سبقوه، أو تأثر بما حوله من مــظاهـر الحيـاة الجديدة في عصره، وإنّما كان يصدر شعره عن وعي تام، وتفكير عميـق، كيف لا؟ وهو الذي درس وتعلّم في البصرة والكــوفــة ورحـل إلى بغـداد، واتّصل بحكامها ومدح الرشيد، ثمّ ابنه الأمين.

        كما أنّه تثقّف بالفلسفة والمنطق والديــن، بالإضافــة إلى علــوم اللغـة العربيّة. والبيئة العربية بتشعباتها، واختلاف الأجناس فيها من فرس وروم وغيرهما، كانت ولا تزال تقدّس وتحترم الأخلاق والشـرف، فحــق لنـا أن نطلق عليها أمّة الأخلاق والشرف، كيف لا؟ وهي أمّة لا تحيد عنهــا قيـد أنملة مهما كانت الأسباب والظروف. أمّا أبو نواس فقد فضّل عن وعي تام شعوبيّته الماجنة المستهترة بالأخلاق والشّرف!! حيث جعــل مـذهــبـه في الحياة اللهو والمجون و الاستهتار بالأخلاق والشّرف والدّيـن، وهـو يشـبـه إلى حدّ ما مذهب العبثيين في العصر الحديث. أو ليس هو القائل:

دع عنك لومي فـإنّ اللـوم إغـراء
                                           وداوني بالّتي كانت هي الـدّّاء
صفراء ،لا تنزل الأحزان ساحتها
                                         لو مسّها حـجــر مـسّتـه سـرّاء


           إلى أن يقول عن الشعراء العرب الذين يستهلون قصائدهم بالــوقـوف على الأطلال، فيسخر منهم قائلا:

لتلك أبكي ، ولا أبكي لمنزلـة
                                 كانت تحلّ بها هنــد وأســمـاء
حاشا لدرّة أن تبنى الخيام لها
                                 وأن تروح عليها الإبل والشّاء


ويقول في وصف الخمر وكؤوسه:

دع ذا عدمتك واشربها مـعـتـقـة
                                              صفراء تــفـرق بين الـروح والجـسـد
فاشرب وجد بالذي تحوي يداك لها
                                           لا تدّخر اليوم شيئا خوف فقر غد


          يقول الدكتور طه حسين عن أبي نواس ودعوته إلى التجديد: " ولم يكن يدعو إلى تجنب أساليب القدماء في وصف الأطلال والبكاء عليها وحدهـا، وإنّما كان يدعو إلى تجنّب ستّة القدماء في المعاني و الألفاظ جميعا... فهـو يطالب الشعراء بأن يكونوا صادقين غير منافقين مع أنفسهم... " ،ويخلص بعد ذلك إلى القول حول شعر أبي نوّاس: " فإنّ شعر أبي نواس في الخمـر كان يرمي إلى غرضين إثنين: الاعتراف بالجديد في الأدب، والاعـــتراف بالجديد في الحياة" .

          ومن هنا يمكن أن نقول: أنّ البيئة العربيّة الجديـدة لــم تعــد مـقـصـورة ومحصورة في الصحراء القاحلة فقط ، بل أصبحت بيئــة متنـوّعـة، فهناك الصحراء والتل، وهناك الجبال والسهول، وهناك الغـابــــات والـــــوديـان والأدغال، ومـا إلى ذلك من بيئة لا تخطر على بال, ذلك أنّ العرب عاشوا في العصر العباسي في ظلّ خلافة لا تكاد الشمس تغرب عنها، فهــي بيئـة مترامية الأطراف، متنوّعة التضاريس، وقل مثل ذلك عن بلاد الأندلـــس، وما أدراك ما بلاد الأندلس؟ توصف باختصــــار شديــد بأنّهـا جنــة فـوق الأرض أو الفردوس المفقود!!.

            والســؤال الذي يمكن لنا طرحه: هل يبقى الشاعر العــــربيّ الأصيـل الذي أصبح يعيش في هذه البيئة الجديدة متمسّكا على ما درج عليه القـدماء في استهلال قصائدهم بالوقوف على الأطلال والبكاء على الأحبّة؟ أم عليه أن يصور الحياة الجديدة بحدائقها وقصورها, وبركها وأنهارها وغير ذلك من الحياة الجديدة التي ألّفها العرب بطريقــة أو بأخــرى؟! وهـل بمـقـدور الشاعر أن يبتعد عن هذا العرف العربي الذي ألفوه منذ القدم والمتمثــل في مطلع القصيدة العربيّة؟! لذلك نرى البحتري، هذا الشّاعر العربي الصّميم، يصف بركة المتوكّل في قصره:

يامن رأى البركة الحسناء رؤيته
                                       والآنــســــات إذا لاحــت مغانــيــها
ما بال دجلة كالغيـرى تنــافسـهـا
                                         في الحسـن طورا، وأطوارا تباهيها
إذا النجوم تراءت في جوانــبــها
                                           ليلا حـسبـت سمـــاء ركـبــت فـيــها
لا يبلغ السّمك المحصور غايتها
                              لبعد ما بين قــــاصـــيــها ودانــيــها

         وها هو الشاعر أبو الطيّب المتنبي يستهلّ قصائده في الغالـــب بأبيـات من الحكمة، فهو بذلك يعدّ مجدّدا لا مقلّدا، إذ يقول في إحدى قصائده:

لكلّ امرئ مـن دهـــره مـا تـعـوّدا
                                         وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
هو البحر،غص فيه إذا كان ساكنا
                                       على الدّرّ, واحذره إذا كان مـــزبـــدا


          وهاهو فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعرّي يقول في قصيدة رائعة كلّها تأمّلات في الحياة و الموت:

غير مجد في ملّتي واعتقادي
                                  نوح باك ولا ترنم شـــــاد
وشبيه صوت النّعيّ إذا قيس
                                     بصوت البشير في كلّ ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غــنّت
                                     على فرع غصتها المــــيّاد


         وأخيراً وليس بآخر يمكن أن نقول: أنّ الشّاعر أبا نوّاس في القديم مثل المستشرقين في العصر الحديث، حيث أنّه خـــدم الأدب العربي،
وبخاصــة الشعر منه، بطريقة غير مباشرة بفضل هذا الصراع الذي أوجده بين القديم والحديث.

الأستاذ:مومني عبد العالي
ثانوية بوالروايح – قالمـة -