مواهب وابداعات للأستاذ: مومني عبد العالي

مرحبا بجميع القراء الأوفياء

السبت، 26 يونيو 2010

الشّعـر العـربي... وموسيقاه الداخليّة والخارجيّة


استعملت اللّغة العربيّة وآدابها كلمة( الشّعر )للدلالة على كلّ كلام جميل موزون مقفى يعبّرعن تجربة إنسانيّة،وهو على خلاف( النّثر ) الذي قالوا عنه:هو كلّ كلام جميل مرسل خالٍ من الوزن والقافية،وكلاهما ينضوي تحت كلمة شاملة هي ( الأدب ).
ولعلّ أوّل أثر نقدي مشهور في تاريخ الأدب العربي هو كتاب ( نقد الشّعر) للعلامة الكبير قدامه بن جعفر،وهو كتابٌ قيمٌ تأثّر به النقـاد العرب الكبار من أمثال أبي هـلال العسكري صاحب كتاب " الصناعتين " ، وابن رشيق القيرواني صاحب كتاب " العمدة "، وابن سنان الخفاجي صاحب كتاب " سـرّ الفصاحة "، كما تأثر بهذا الأثر القيـم علمـاء البلاغة الكبار، نذكر منهم خاصة العلامة عبد القاهر الجرجاني، والسّكـاكي وسواهم من علماء البلاغة الفطاحل!!
فالنّاقد العربيّ الكبير قدامه بن جعفر يعرّف الشّعر بأنّه : << قول موزون مقفى يدلّ على معنى >>(1)، وقد يكون جيّداً، وقد يكون رديئاً، أو يكون بين الأمرين حسب ما يـرى . وبعد أن شرح وفسّر هذه المراتب للشّعر، يقرر أنّ هذا الشّعر يتألف مـن أربعة عناصر أساسيّة وهي : اللفظ ، والمعنى، والوزن، والقافيّة.والشّعر الجيّد عنده لا بدّ أن يتألّف من عناصر أخرى وهي : ائتلاف اللفظ مع المعنى أو الوزن ، وكذلك ائتلاف المعنى مع الوزن والقافية، فإذا لم يكن كذلك فهو شعر رديء ٌ لا قيمة له !!(2) وبذلك كان كتابه هذا أكبر خطوة جريئة لتدوين البلاغة العربية،وأصول النّقد الأدبي.
يقول أحمد شوقي عن الشّعر والشّعراء:
والشعر إنْ لم يكن ذكرى و عاطفة **** أو حكمة ، فهو تقطيعٌ و أوزانُ

ترى، كيف يكون الشّعر؟ وبم يمتاز عن النّثر ؟ فالشّعر هو الكلام الجميل الذي يمتاز عن النّثر بنغمته الموسيقيّة التي تتجلّى خاصة في تفعيلات البحر المناسب للأغراض الشّعريّة من جهة ، والقافية وحرف الرّوي الذي يناسب ما عالجه الشّاعر في هذه القصيدة أو تلك من جهة أخرى . و الموسيقى في الشّعر ــ كما هو معروف ــ تنقسم إلى قسمين : داخليّة وخارجيّة.فكيف تكون هذه الموسيقى منسجمة مع روح القارئ ووجدانه ؟ فهذا امرؤ القيس الذي يأتي في طليعة شعراء العصر الجاهلي من الطبقة الأولى ؛ إذ يقول في معلّقته المشهورة :
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ **** بسقط اللوى بين الدّخول فحومل
ثمّ يعرِّج على وصف الليل ، وقد أحسن الوصف ، وأجاد فيه ، حيث أجمع النّقاد ، قديماً وحديثاً ، أنّ أحسن شاعر وصف الليل هو امرؤ القيس ، أليس هو القائل :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنـواع الهمـــوم ليبتلـــــــــي
فقلت له لمّـا تمـطى بصلبـــــــه وأردف أعجـازاً وناء بكلــكـــــلِ!
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجــل بصبح ومــا الإصباح منـك بأمثلِ
فيالك من ليل كأن نجومــــــــه بكل مغار الفتــل شُدّتْ بيذبُـــــــلِ(3)
فياله من وصف رائع جميل ، وياله من خيال واسع بديع، ويالها من موسيقى جميلة لا عهد للآذان بها !! فالموسيقى الدّاخليّة تتجلى عند الشّاعر في هذه القصيدة في حسن استعماله للمحسنات البديعيّة، وقد وردت عفوية دون قصد منه ، فانظر كيف استعمل التصريع في مطلع القصيدة، وهو بمثابة السّجع في النّثر، بين ( منزل ـ وحومل )، فالشاعر الفحل، على عادة الشّعراء، هو الذي يصرّع مطلع القصيدة، فتحدث بذلك من البداية جرساً موسيقياً، ويكون حسب الموضوع أو الغرض الذي عالجه وتطرّق إليه في النّص الشّعري، وانظر إلى الطباق كيف استعمله ؟ فهو يثير الحس والانتباه لدى السامع والمتلقي، والطباق واضح بين ( الليل والصبح ) وهو طباق الإيجاب ــ كما هو معروف ـ زاد المعنى قوة ووضوحاً ، ولذلك يقال : بالأضداد تتضح الأشياء . فـهذه الموسيـقى الداخليّة جــاءت عفويّة ـ كما يبدو من خلال السّياق ــ ذلك أنّ الصناعة اللفظيّة ظهرت في العصر العباسي مع ابن العميد في الكتابة الفنّيّة،واكتملت على يد بديع الزمان الهمذاني خاصة في فن المقامة. أما في الشعر فتظهر هذه الصناعة اللفظية عند أبي تمام و تلميذه البحتري . فهذه الموسيقى عند امرئ القيس لها أثرها العميق في روعة الأسلوب،وتقريب المعنى من القارئ ووجدانه،ففيها ائتلاف كبير بين اللفظ و المعنى.
وانظر إلى الموسيقى الخارجيّة والمتمثلة خاصة في الوزن،والقافية وحرف الرّوي. فقد أحسن الشاعر بذلك اختيار الوزن المناسب لجوّ القصيدة المفعمة بالحزن والكآبة والأسى، وهو بحر الطويل، الممتد التفعيلات،المناسب لجميع الأغراض الجادة،وأجزاؤه الحقيقيّة هي :
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن **** فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فالشاعر كما يبدو من خلال القصيدة،وهذه الأبيات، حزيناً أشدّ الحزن يتألّم كثيراً لمقتل والده ، فتخيل الليل الطويل ، الثقيل بهمومه ، كأنّه جمل برك عليه بثقله ، وهو يئنُّ تحت وطأته الشديدة ، تكاد أنفاسه تتوقف من شدّة الضيق الذي يحسُّ به ، فالليل يراه طويلاً ، فيتمنى أن يسفر الصباح ، ولكنه يستدرك للتو أن همومه مستمرة ليل نهار ، كيف لا؟ وأن الشاعـر لـم يثأر بعـد لأبيه حسب عـادة العـرب آنـذاك . فهـي موسيقـى حـزينة كئيبـة شجيّـة،وخاصة عندما أختـار القافية المناسبة لهذا الجوّ وهذا المقام، وهي ( حَوْمَلِ )وحرف رويِّها هو( اللام ) المكسورة، وهو حرف من حروف اللسان، فكأنّه يقول بلسانه، وبملء فيه، أنا مكسور القلب !!
وهاهو عمرو بن كلثوم ، شاعر الملاحم عند العرب ، يقول مهدّداً ومفتخرا في هذه الأبيات:
أبا هند فلا تعجـل علـينا وانظـرنا نخـــبـرك اليقيــنا
بأنا نورد الرايات بيضا ونصدرهن حـمرا قد روينا
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ تخـرُّ لـه الجـبـابـر ساجدينا
ألا لا يجهلن أحد علـينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا(4)
نلاحظ في قصيدة الشاعر الموسيقى الداخليّة تتجلى خاصة في حسن اختيـار الكلمات القويّة الصّاخبة المناسبة للغرض والمعنى، وهذا يعني ائتلاف اللفظ مع المعنى، فأنت ترى في هذه الأبيات ـ رغم قلتها هنا ـ نغمات صادرة عن حرف (النون) في كلمات متعدّدة، وهي(سبعة عشر)في أربعة أبيات فقط، ناهيك عن المعلّقة كلّها !!وهو حرف من الحروف الذلقة، كأن الشاعر ينشد من طرف اللسان، فاستعمـل كلمات ذات أصـوات قويّة شديدة مناسبة للحماسة مثل(تخرُّ،والجبابرة،والجاهلينا...).
أمّا الموسيقى الخارجيّة التي تتجلى عادة في الوزن، والقافية، وحـرف الرّوي، فقـد أحسن الشاعر اختيار الوزن المناسب لجوّ الحماسة، وهـو بحـر الوافـر، ذي التفعيلات الرّصينة المناسبة لمعاني الفخر والتهديد،وأجزاؤه الحقيقية هي:
مفاعلتن مفاعلتن فعولن **** مفاعلتن مفاعلتن فعولن
والقافية التي اختارها الشاعر هي(قينَا) في كلمة (اليقينا)وهي ملائمة لمعاني الفخر والتهديد والحماسة، وحرف الروي المتمثل في (النون)، وهو حرف ذلقة، وبعده حرف (وصل) المتمثل في(الألف)وهي ألف الإطلاق، فكأنما يطلق تهديداته بقوة وبملء فيه! كيف لا؟وهو الذي قتل خصمه فيما بعد كما تذكر الروايات.وقبلها حرف ردف، فالقصيدة إذن مردوفة،والردف عادة حرف من حروف ثلاثة: الألف أو الواو أو الياء، وهي حروف مدّ، إلاّ أن الشاعر اعتمد على حرف واحد هو(الياء)فكأن الشاعر يمدّ صوته ليسمع به القاصي و الداني، وهي حروف تتعاون جميعها لتحدث جرساً موسيقياً، ونغماً قويّاً لا يخلو من التحدي و القوة!! فقد استعمل الشاعر حرف(الياء) ردفاً لقصيدته، وهي من الحروف الشّجريّة .
أمّا الشاعرة الخنساء، شاعرة الحزن والبكاء، قبل البعثة، فهي مشهورة برثاء أخيها صخر ومعاوية، تقول عن الأول في قصيدة رائعة، تعد من عيون الشعر العربي:
يؤرّقني التّذكر حــين أمــــسي فأصبح قد بليت بفرط نكس
علــى صخرٍ، وأيُّ فتىً كصخرٍ ليوم كريهة وطعان خـــلس
يذكــرني طلوع الشمس صخراً وأذكـره لكل غروب شـمس
ولــــولا كثــرة الباكين حـــولي على إخوانهم ، لقتلتُ نفسي(5)
فالموسيقى الداخليّة عند الخنساء جاءت عفويّة ، لها أثرها الكبير في جمال الأسلوب، وتقريب المعنى من القارئ ، ففيها ائتلاف بين اللفظ والمعنى ، فقد استعانت بالتضاد لتزيد من المعنى قوة ووضوحاً ، وهذا يظهر جليّاً بين ( طلوع الشمس وغروبها ) .
أمّا النّوع الثاني من الموسيقى فقد وفقت الشاعرة فـي اختيار الوزن المناسب لذلك ، وقل مثل ذلك بالنسبة للقافية، وحرف الروي الذي تبنى عليه القصيـدة، وهي كلّها تتناسب مع زفرات قلبها المعذب، وعواطفها الجيّاشة، بسبب فراق أخيها صخر. والأبيات من بحر الوافر المناسب للأجواء الحزينة الكئيبة، وأجزاؤه الحقيقيّة هي : مفاعلتن مفاعلتن فعولن **** مفاعلتن مفاعلتن فعولن
والقافية هي (نُكْسِ) ، وهي مناسبة لجوِّ الحزن والكآبة التي لازمت الشاعرة قبل البعثة المحمديّة، واختارت بذلك حرف الروي هو(السين) وهو حرف أصليٌّ، مناسب عما أحسّت به الشاعرة من حزن وألم وعذاب لفراق أخيها صخر، كيف لا؟ وهي التي تعـزُّ أخـاها صخراً وتجلّه لبره بها،وبعد غارة قام بها على قبيلة بني أسـد طعـن أثناء عودته، فاعتل ومات. فبكته الشاعرة بكاءً حاراً ، و حـزنت عليه حزناً عميقاً، وظلّت تقول فيه المراثي حتى جاء الإسلام، فأسلمـت،وحسن إسلامها، فاشتغلت بالقرآن عن الشعر. وعندما دفعت بفلذات أكبادها الأربعـة (عبد الله ويزيد ومعاوية وحرب) في حرب القادسيّة، واستشهدوا جميعاً في هذه المعركة، ولم يسلم أحدٌ منهم، ولمّا بلغها نعيهم، فلم تحزن لذلك ولم تنزعج، لأنّها أصبحت تعـرف أن الموت حق،وأن أبناءها استشهدوا في سبيل الله ، لذلك لم تحزن على فلـذات أكبـادها الأربعة، مثلما فعلت قبل اسلامها مع أخيها صخر، بل قالت قولتها المشهورة التي لا زالت تـزن في آذاننا حتـى اليـوم: << الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربِّي أنْ يجمعني بهم في مستقر رحمته >>.(6)
وإذا وقفنا عند الشاعر أبي تمام فنجـده يهتـم بالمعنى والمبنـى معاً، وهو بذلك يعد صاحب اتجـاه في الشعـر العـربي، فقد تأسسـت على يده مدرسة الصّناعة اللفظيّة في الشعر،والتي أكملها تلميذه البحتري. وهكذا جاءت الموسيقى الداخليّة والخارجيّة عنده فيها شيء من التكافؤ إلى حد ما، فهو يحفل بالصناعة اللفظيّة احتفاءً خاصاً، فيكثر في شعـره الجنـاس والطبـاق والمقابلـة والاقتبـاس ونحو ذلك من المحسنات البديعية. وانظر إلى قصيدته الرائعة التي يصف فيها معركة (عمـورية)،والتي قال المنجمون بأنها لا تفتح إلا وقت نضج التين والعنب. كمـا أن قصيدته هذه مرتبطة بصراخ واستغاثة المرأة المسلمة القائلة(وامعتصماه!)، أليس هو القائل في تلك المعركة: السيف أصـدق أنبـــاء مـن الكتب في حــده الحـد بيــن الجـد واللعـب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متـونهـن جـلاء الشـك والريـب
والعلم في شهــب الأرماح لامعـة بين الخميسين لا في السبعة الشهب(7)
فالموسيقى الداخلية صاخبة دون شك،فالشاعر في مجموعة قليلة من الأبيات تراه يحتفي احتفاء خاصة بالصناعة اللفظية،فنجد مثلاً التصريع في مطلع القصيدة بين(الكتب واللعب)والشاعر الفحل دائماً يصرع القصيدة حتى يتجاوب القارئ معها من البداية. كما استعمل الجناس الناقص بين(الصفائح والصحائف)والتام بين (حده والحدّ)والطباق بين(الجد واللعب)مما جعل القصيدة ذات جو حماسي رائع،وخاصة عندما رافق الشاعر الخليفة في هذه المعركة،ورسم لنا مشاهد مؤثرة منها،وصوراً بديعة تطمئن إليها القلوب والأفئدة،وخاصة حين قال عن هذا الفتح المبين:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به **** نظم من الشعر أو نثر من الخطب
وقد أحسن الشاعر اختيار الوزن المناسب لهذه القصيدة،وهو بحر البسيط وأجزاؤه الحقيقية هي:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن **** مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
فالقافية هي(واللعب)والقصيدة لا مردوفة ولا مؤسسة، فاعتمد فيها الشاعرعلى حرف أساسي هو حرف الروي(الباء)وهو حرف من الحروف الشفوية،بالإضافة إلى الوصل المتولد عن إشباع حرف الروي المكسور،وهو حرف (الياء)وهي من الحروف الشجرية.
وقصيدة البحتري المشهورة في وصف إيوان كسرى،والتي اشتهر بها كثيرا بين النقاد قديماوحديثا،فهي تشترك مع قصيدة الخنساء في رثاء أخيها صخر،والتي مطلعها((يؤرقني التذكر حين أمسي فأصبح قد بليت بفرط نكس))فكلاهما اشتركا في حرف الروي،وهو حرف(السين).فندرك أن حرف (السين) له جرس قوي، ونغم حزين فلا نراه في أي حرف آخر من الحروف الأبجدية.كان الشاعر البحتري مهموماً حزيناً كئيباً لمقتل الخليفة وبطانته والتي كان الشاعر يعيش من نوائلهم وعطاياهم فترة طويلة من الزمن،ولما ضاقت به الدنيا بما رحبت،توجه إلى أبيض المدائن بغية التسلية والترفيه عن النفس،فأحس الشاعر بغربة المكان ووحشيته بعدما كان عامرا بالناس والحركة والاضطراب،وحافلاً بالحضارة والتطور والازدهار،فنقل إلينا إحساسه وعواطفه،ومشاعره الرقيقة،وهي مفعمة بالحزن والأسى،فالمكان موحش حزين، والشاعر كذلك،فمزج هذا الشعور، وهذه الأحاسيس، وهذه العواطف معاً، فجاءت بذلك قصيدته هذه رائعة جميلة،تعدّ من عيون الشعر العربي،حتى زعم بعض النقاد في زمانه أن الشاعر البحتري لوكتب هذه القصيدة فقط،لكان بذلك أشعر العرب في عصره!!
ومعلوم في تاريخ الأدب العربي أن كثيرا من القصائد الشعرية عرفت بحرف روّها،لما لهذا الحرف من ايقاع خاص على جو القصيدة،فيحدث فيها جرساً موسيقياً لا عهد للآذان به، ونغماً بديعاً لم يسبق إليه أحد من قبل،من ذلك مثلاً قالوا: لامية العرب للشنفرى الذي يقول في مطلعها:
أقيموا،بني أمّي،صدور مطيكم **** فإني،إلى قوم سواكم،لأميل!
وسينية الخنساء التي تقول في مطلعها:
يؤرقني التذكر حين أمسي **** فأصبح قد بليت بفرط نكس
ونونية بن زيدون التي يقول في مستهلها:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا **** وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وسينية البحتري التي يقول فيها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي **** وترفعت عن جدا كل جبس
ودالية المتنبي والتي مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا **** وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
فلم يطلق النقاد العرب على هذه القصائد هكذا دون قصد أو دراية بذلك، فقـد أحسوا وأدركوا قيمة هذه الحروف عن غيرها في النص الشعري لهذه القصيـدة أو تلك، وبذلك عرفت هذه القصائد الرائعة الجميلة عبر العصور الأدبية بحرف رويّها .
والقافية في الشعر العربي قد تكون مقيدة كقول أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياهْ فلا بـد أن يستجيب القدرْ
ولا بـــد لليـل أن ينجــلـــي ولا بد للقيد أن ينكســــرْ

فأنت تلاحظ وترى حرف الروي(الراء)ساكن،وهو الذي يمثل القافية المقيدة.وقد تكون هذه القافية مطلقة،وذلك إذا كان حرف الروي فيها متحركاً كقول أبي فراس الحمداني:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر **** أما للهوى نهْي عليك ولا امْرُ
والقافية في الشعر العربي لها حروف ستة يعرفها جميع النقاد والدارسين لعلوم اللغة العربية وآدابها،والحرف الأساسي فيها هو (حرف الروي)الذي تبنى عليه القصيدة،وقبل هذا الحرف مباشرة نجد حرف الردف،وهو واحد من ثلاثة أحرف،وهي حروف المدّ الثلاثة(الألف والواو والياء)، فقالوا هذه قصيدة مردوفة كقول أبي العلاء المعري: غير مجد في ملتي واعتقادي **** نوح باك ولا ترنم شادي
فالقافية هي(شادي)،فحرف الروي هو (الدال)والألف قبله مباشرة حرف (ردف)،والياء بعد حرف الروي مباشرة تسمى (وصل).
أما إذا كان الحرف الثاني قبل حرف الروي(ألفاً)فقط،فأطلقوا عليه(بألف التأسيس)،وبين حرف الروي وألف التأسيس حرف يتغير هو(حرف الدخيل)ولا داع للشاعر أن يلتزم هنا بحرف واحد،وإذا لزم نفسه بذلك،قيل:أنه لزم نفسه مالا يلزم،كأبي العلاء المعري في ديوانه المشهور(اللزوميات)حيث أنه لزم نفسه مالا يلزم.فقالوا هذه قصيدة مؤسسة،كقول أبي العلاء المعري:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل **** عفاف وإقدام وحزم ونائل
فالقافية هي(نائل)،فحرف الروي هو (اللام)،والحرف الثاني قبل الحرف الروي هو (ألف التأسيس)وحرف الهمزة بين ألف التأسيس وحرف الروي يسمى(دخيل)،وحركته الضمة التي تقلب(واواً)فسمى هذه (الواو)حرف وصل. والقصيدة العربية قد تكون غير مردوفة ولا مؤسسة،أما حرف الروي الذي تبنى عليه القصيدة فلا بد أن يكون دائماً موجوداً في القصيدة،وأما الحرف الذي يأتي بعد حرف الروي مباشرة،هو حرف (الوصل)وهو واحد من ثلاثة أحرف: (الألف والواو والياء والهاء الساكنة أو المتحركة).
فبالنسبة للألف التي تسمى الوصل مثل قول مفدي زكريا:
إن الجزائر في الوجود رسالة **** الشعب حررها ربك وقعا
فحرف الروي هو(العين)وبعده مباشرة ألفا يسمى(الوصل). وبالنسبة للواو التي تسمى الوصل أيضاً قول المتنبي:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني **** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فحرف الروي هو(الميم)المضمومة والتي تقلب(واواً)لغرض الإشباع، فتكتب هكذا (لقلمو)، هذه الواو بعد حرف الروي تسمى (حرف وصل).
بالنسبة للياء التي تسمى الوصل كذلك كقول جرير:
أعددت للشعراء سماً ناقعاً **** فسقيت آخرهم بكأس الأول
فحرف الروي هو(اللام)المكسورة، والتي تقلب(ياءً) لغرض الإشباع، فتكتب هكذا(أوولي) هذه الياء بعد حرف الروي تسمى(وصلاً).
أما الهاء الساكنة التي تكون بعد حرف الروي مباشرة والتي تسمى أيضاً حرف وصل كقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً **** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبهْ
فحرف الروي هو (الباء)،والهاء الساكنة بعدها حرف وصل.وقبل الباء حرف دخيل وهو(التاء)والحرف الثاني قبل الباء هو ألف التأسيس.فالقصيدة إذن مؤسسة.
أما إذا كانت الهاء متحركة بالفتحة أو الضمة أو الكسرة،فتشبع،فتقلب الفتحة(ألفاً)، والضمة (واواً)و الكسرة (ياء)هذه الحروف الثلاثة بعد الهاء المتحركة تسمى(خروجاً)كقول لبيد بن ربيعة:
عفت الديار محلها فمقامها **** بمنى تأبد غولها فرجامها
فحرف الروي هو (الميم)،والهاء المفتوحة(حرف وصل)والألف بعدها حرف (خروج). فعندما تكون (هاء الوصل)متحركة،فبعدها مباشرة يأتي (حرف الخروج)وهو واحد من ثلاثة أحرف(الألف،والواو،والياء)بحسب حركة حرف الهاء.
وهكذا نجد أن القافية شمل على حروف ستة،وهي(حرف الروي)وقبله مباشرة حرف الردف والحرف الثاني قبل حرف الروي مباشرة يسمى ألف التأسيس وبينهما حرف الدخيل. وبعد حرف الروي مباشرة حرف الوصل والثاني حرف خروج.
مع الملاحظة أن هذه الحروف لا تجمع كلها في قصيدة واحدة ماعدا حرف الروي لا بد أن يكون دائما موجوداً،فقد تكون القصيدة غير مردوفة وغير مؤسسة،وقد يكون حرف الروي ساكنا،فتكون القافية مقيدة،فلا يأتي بعدها حرف الوصل ولا حرف الخروج. فإذا كانت القصيدة مطلقة،أي حرف الروي فيها متحرك،وليس مردوفة ولا مؤسسة،فنجد فيها على الأقل حرفين فقط هما:الروي والوصل.والعرب لم يجمعوا في قصائدهم قديماً وحديثاً بين التأسيس والردف!!
ومجـل القـول: فالموسيقى الداخلية هي جرس ونغم يلائم جو القصيدة الشعرية،وهذا يتوقف بالخصوص على الأغراض الشعرية من مدح وهجاء وفخر ورثاء ووصف ونحو ذلك...بالإضافة إلى الصناعة اللفظية من سجع وجناس وطباق ومقابلة واقتباس ونحو ذلك من المحسنات اللفظية والمعنوية،فهي جميعاً تتعاون لتجعل الأسلوب جميلاً رائعاً،والمعاني ملائمة للألفاظ،وكذلك تجانس الحروف ومخارجها،حتى لا يكون هناك تنافر في اللغة،لأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما قال ابن جني،ومن أمثلة هذا التنافر في مخارج الحروف هذا البيت الذي قيل عنه بأن القارئ لا يستطيع ترديده حتى يتلعثم لسانه وهو:
وقبرُ حرب بمكان قفْرُ **** وليس قرب قبر حرب قبرُ

قيــل:إن هذا البيت لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات على التوالي دون أن يَتـتـعْـتـعَ.
أما الموسيقى الخارجية فهي أقوى جرساً و نغماً من الموسيقى الداخلية والتي نجدها حتى في النثر وبخاصة في فن الخطابة،فالشاعر يختار الوزن المناسب لهذه الأغراض الشعرية،وأن يجعل القافية وحروفها،وخاصة حرف الروي،مناسبة لهذا الجو أو ذاك والذي تحتاجه هذه القصيدة أو تلك.فمخارج هذه الحروف لها أثر قوي،وتأثير كبير،وتفاعل رائع مع روح القارئ ووجدانه،فهناك بحور تصلح أن تكون في غرض الرثاء،وأخرى في غرض الفخر والحماسة،وبعضها الآخر في غرض المدح والهجاء والوصف وهكذا!! واختيار الشاعر للحروف المناسبة لجو القصيدة،وبخاصة حروف القافية، تعد من روائـع النغمات الصوتية التي تحدث جرساً ملائماً لطبيعة القصيدة الشعرية،بالإضافة إلى الصناعة اللفظية عند بعض الأدباء و الشعراء المولوعين بهذه النغمات الجميلة الرائعة، في الأدب العربي.


الأستــاذ: مـومنـي عبـد العـالي
ثانوية بوالروايح – قالمــة
.


هوامش:
* نقد الشعر،لأبي الفرج قدامه بن جعفر،تحقيق وتعليق الدكتور:محمد عبد المنعم خفاجي،ط:1،1978م-مكتبة الكليات الأزهرية حسين محمد إجبابي وأخوه محمد،ش الصنادقية،الأزهر،القاهرة،1) ص:64
2) المرجع نفسه،ص:54.
3) المختار في الأدب والقراءة،السنة الثانية علمي،ص:112.
4) المختار في الأدب والقراءة،السنة الأولى علمي،ص:166.
5) المرجع نفسه،ص:133
6) المرجع نفسه،ص:132
7) المختار في الأدب والقراءة،السنة الثانية علمي،ص:119