يعد (ألبير كامي) أديبا وكاتبا كبيرا لا يختلف في هذا الأمر إثنان، قيل من قبل عن الأديب والشاعر العربي الصميم البحتري: لو كتب درته المشهورة فقط في وصف إيوان كسرى، لكان من أشهر شعراء العصر العباسي، وكذلك الحال يمكن قوله عن الأديب والكاتب الكبير الأستاذ مومني عبد العالي (كامو): فلو كتب إلا رواية (الغريب) فقط لكان بذلك من أعظم وأكبر الكتاب في العصر الحديث. فرغم أفكاره اللامعقولة في هذا الكتاب، وفلسفته العبثية الواضحة فيه، إلا أن القارئ يجد فيه متعة فنية جميلة رائعة، ولغته من الألفاظ والتراكيب ذات إيحاءات ودلالات خاصة، فأنت لا تجدها إلا عند الفطاحل الكبار ، ونوادر الأسفار، فهو يتحكم في ناصيتها، فتأتيه الأفكار من خلالها دون عناء أو جهد، فهو يشبه إلى حد ما أبو الطيب المتنبي حين يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وهذا ما يحدث الآن في الجزائر حول (كامو)، فقد شغل الناس بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيله، وخاصة بعد إعلان مجموعة من رجال الأعمال و بعض المفكرين والأدباء والمثقفين فرنسيين وجزائريين عن تنظيم قافلة من فرنسا إلى الجزائر، وليس العكس، فانقسم بذلك الجزائريون إلى مؤيد للفكرة ومعارض لها، ولكل حججه وأدلته وأعذاره، بل هناك من أقام ندوات حول هذا الموضوع، وتشعبت بذلك الآراء والمواقف، وفتح النقاش لذلك، إلا انه لم يضف شيئا مما عرفاه عن (كامو) وألفناه عن نتاجه الأدبي. والحال أن كل أديب و كاتب، قديما وحديثا، يدور حوله النقد باعتباره إنسانا، وأديبا، ومفكرا، ومبدعا، ومذهبه في الحياة، ومواقفه من قضايا عصره، والبيئة التي أنشأته وترعرع فيها، وشرب من لبنها، وكيف أشتد عوده، وأصبح بذلك كاتبا وأديبا كبيرا!! فإذا كان النتاج الأدبي فيه شيء من الدين والأخلاق والسياسية ونحو ذلك، فلا ينبغي عزل الأدب عن هذه القضايا التي نلمسها عند هذا الأديب أو ذاك!! أما إذا لم يعزل الأديب نفسه عن الدين والأخلاق والسياسية ونحو ذلك، ويحاول غيره من النقاد عزل هذه القضايا عنه، فهذا يعد جناية على الأديب والأدب معا الذي هو مرآة الحياة، بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، بفضائلها ورذائلها، فهو بذلك يعكس بصدق مرحلة من مراحل الحياة، وطور من أطوارها، و(كامو) ليس بعيدا عن هذه الحقيقة بل هو كنهها، إن لم نقل هو عينها!!
فلماذا يفكر الناقد في أدب(كامو) بمعزل عن روافده المختلفة؟ فمن يفعل ذلك فكأنما هو في حقيقة الأمر يفصل الجسد عن الروح، فما الجدوى من الاحتفاظ بالجسم دون الروح؟ أو السعي إلى الفصل بينهما؟!
فمن يطلع على مناقشات وندوات الكتاب والنقاد والمبدعين عندنا في هذه الأيام حول الكاتب والأديب العبثي (كامو) يعتقد وكأن الرجل قد ولد من جديد، وأن الجزائريين لم يعرفوه من قبل وكأنه لم يولد في الجزائر ولم ينشأ فيها!!
فالجزائري الأصيل كان يعتقد منذ الاستقلال أن محاولات الاحتلال الفرنسي لطمس الشخصية الجزائرية، ومقومات الشعب الجزائري الأبي، بغية نشأة جيل جديد لا يعترف بجذوره وثقافته وحضارته ولغته ودينه، ويتنكر لتاريخه الطويل، قد باءت كلها بالفشل الذريع ابتداء من مقاومة الأمير عبد القادر، والحركة الوطنية، ومرورا بالمصلحين الكبار، وتتويجا بثورة التحرير المجيدة التي قضت - وإلى الأبد- على أحلام الاحتلال وأذنابه بالأمس واليوم، للنيل من أصالة الشعب الجزائري الأبي!!
ففي قصة (كامو) الشهيرة (الغريب) لا يخطىء أن يطلق مرة واحدة على الجزائري اسم (محمد) أو (علي) أو (صالح) ونحو ذلك من الأسماء ، بل تراه يقول دائما <<عربي>> أو <<عرب>>(1)، وهذا النوع من الفكر هو في الحقيقة فكرا عنصريا لا يختلف فيه إثنان، أما أصدقائه الفرنسيين فيناديهم بأسمائهم وألقابهم في كتابه (الغريب) وغيره،(ريمون- ماسو-ماري- سالامانو)(2)... بل أكثر من ذلك تراه يشكك في الدين، فهو ملحد لا يعترف بالأديان السماوية، وهذا يتجلى بوضوح عندما سأله القاضي عن عقيدته، فأجابه بأنه لا يؤمن بالمسيحية والرّب(3)، كل ذلك- كما يرى بعضهم – قصد تحريف حقائق التاريخ، ومقومات المجتمع، وإثارة الشبهات والنزاعات لزعزعة استقرار الجزائر، وتغليب الدعوات المضللة المنحرفة، وإنكار فضل العرب عامة، والجزائر خاصة، على حضارة الغرب في العصر الحديث والتي انطلقت من الأندلس نحو فرنسا وألمانيا وغيرهما، وبذلك فهم يفضلون- كما يرى بعضهم- كل ما هو أجنبي، وفرنسي بالخصوص، في المأكل والملبس والإيواء ونحو ذلك قصد التشكيك في أخلاقنا السامية، وعاداتنا العريقة، ومقوماتنا الأصيلة، وخاصة في هذا الوقت بالذات حين أصدرت فرنسا قانون تمجد من خلاله الاحتلال، وهكذا انقسمت النخبة عندنا إلى فريقين: الأول يرى أن الكاتب(كامو) جزائري مولدا ونشأة، ومن ثم يمكن أن نعبث بكل مقومات هذا الشعب الأصيل، وعادات هذا المجتمع العريق، كما عبث الكاتب (كامو) بها، بما فيها القيم الإنسانية، فمن لم يرحم والدته لا تنتظر منه أن يرحم أحدا من الناس، حتى وإن كان صهيونيا!!! ومن هنا يدخلون بتلك القافلة القادمة من باريس بالزغاريد والطبول، والزهور والرقص وكأنهم الفاتحين الجدد، ومن ثم نقول لشهدائنا الأبرار، ومجاهدينا الأخيار: رحمة الله على تضحياتكم الجسام!!، وطموحاتكم وأحلامكم العظام!!!
- وأما الفريق الثاني فيريد أن يجد تبريرا لهذا الأمر، فعمل جاهدا لجعله كاتبا فرنسيا، ومن ثم يصح أن نرفض فكرة القافلة، و لا نرفظ نتاج (كامو) الأدبي، لأنه أدب إنساني على أية حال، شأنه في ذلك شأن جميع الأدباء الأجانب.
و ملخص سيرة (كامو) جاءت على لسان النائب العام حين خاطب الحضور قائلا : (يا حضرات المحلفين ، في اليوم التالي لوفاة أمه ، يذهب هذا الرجل للاستحمام مع إحدى الفتيات ... ثم يذهب للضحك أمام الأفلام الكوميدية ، وليس لدي شيء آخر أقوله لكم )(4) وانظر إلى (كامو) حين يقول على لسانه حين وضع والدته في دار المسنين: (...عندما دخلت إلى دار المسنين كانت تبكي كثيرا ...)(5) ثم يقول : (كانت قد تعودت عليها، وربما لذلك السبب لم أكن قد زرتها تقريبا في السنة الأخيرة ... ) (6)
والحال أن الذين يعشقون الأديب (كامو) بخيره و شره ، هم في الحقيقة شربوا من ثقافة فرنسا حتى الثمالة ، فهم- في آرائهم و أفكارهم – يخضعون – دون إحساس منهم- إلى الاستلاب الفكري والحضاري والثقافي الرهيب ، ولهذا تراهم يمدحون الرجل إن أصبح صباح أو أمسى مساء ، ويرونه المثل الأعلى لهم في التسامح و التعايش بين الأفراد والشعوب، كما هو الحال في جنوب أفريقيا- كما يزعمون- يا لها من مقارنة عجيبة وغريبة في آن واحد!! ذلك أن مسالة جنوب أفريقيا تتعلق بالتمييز العنصري ، أما في الجزائر فالمسألة تتعلق بتصفية الاحتلال، و تقرير المصير . وشتان بين الثرى و الثريا كما يقال !!
فالرجل زجّ بوالدته التي أنجبته في دار المسنين ، وقد بكت لذلك كثيرا ، وعندما فارقت الحياة لم يحزن، ولم يذرف دمعة واحدة عليها ، وفي اليوم الموالي يحلق ذقنه، ويذهب للاستحمام ، وهو في غاية الفرح والسرور مع إحدى الفتيات ، وفي المساء يذهب مع هذه الفتاة إلى السينما ، وهو في قمة السعادة والبهجة ، ثم ترافقه هذه الفتاة إلى منزله. فهل هؤلاء المناصرين (لكامو) يريدون أن يغرسوا ويزرعوا في شبابنا و مجتمعنا ، و فلذات أكبادنا، مثل هذه الثقافة ، بل هل بإمكان هؤلاء أن يعملوا على تعليم أبنائهم و أسرهم هذه الثقافة قبل زرعها وغرسها في جزائر المليون و نصف مليون شهيد !!
فمهما كانت تبريرات هؤلاء المفكرين والكتاب والنقاد والدارسين عندنا في تعاطفهم مع (كامو) تمهيدا لاستقبال القافلة بالورود والأحضان والترحاب ، فهذا الأمر لا يخلو من مآرب مقصودة في نفس يعقوب ، لذلك يقال : إذا عرف السبب بطل العجب !! فمن يريد إخراج (كامو) من قبره في فرنسا ، و إرساله إلى مسقط رأسه في الجزائر أمر لم يفعله أحد من قبل، حتى مع الزعماء و الأبطال الكبار الجزائريين من أمثال الأمير عبد القادر ، وما أكثرهم!! أو الذين نفتهم فرنسا أثناء الاحتلال إلى جزيرة كاليدونيا. وما أغربهم!!
لماذا لا تتسامح فرنسا مع الحجاب و الخمار والبرقع الآن بالذات؟! و لماذا تصاب (بهستيريا) ليست مسبوقة من قبل ؟! فأين هؤلاء و هؤلاء من التعايش السلمي والمواطنة والأخوة والعدل والمساواة و نحو ذلك من الشعارات البراقة، والكلمات المعسولة عندما يتعلق الأمر بالجزائر والعرب والإسلام !! هل الحجاب والخمار يرعب فرنسا إلى هذا الحد؟ لم أكن أعرف في وقت من الأوقات أن فرنسا هشة إلى هذا الحد؟! وأن الجزائر قوية إلى هذا الحد؟! فالأولى تخشى من كل شيء وافد إليها من الشرق، والثانية لا تخشى من أي شيء وافد إليها من الغرب.
إن ما يجمع في رأي - وأرجو أن أكون مخطئا – بين الأديب (كامو) والرئيس الفرنسي (ساركوزي) أن الأول ليس من أصول جزائرية ، والثاني ليس من أصول فرنسية، وهذا هو القاسم المشترك بينهما ، لهذا لا يتعجب القاريء ولا يندهش من تصرفاتهما ، كل منهما في مجال اختصاصه .
و صفوة القول : فإن أفكار وآراء ومفاهيم ومذاهب ومناهج الأديب (كامو) لا تنسجم مع روح الجزائري الأصيل، ووجدانه، وأصالته وثقافته في شيء ، وعليه ، فإذا استقبلنا القافلة بالاحتفاء و الأحضان، و الترحاب والورود والزغاريد - سواء ظهرت نية أصحاب هذه الفكرة جلية واضحة أم لم تظهر- فإن (كامو) سيبقى يقتل في كل لحظة جزائريا حيا و ميتا !!
بقلم الأستاذ : مومني عبد العالي
ثانوية بوالروايح - قالمة
قالمة في 19 مارس 2010م
هوامش:
1- الغريب، لألبير كامي، الدار المصرية اللبنانية،ط:2، يناير 2004م- الترجمة:د/محمد غطاس-ص:50
2- المرجع السابق، ص:38
3- المرجع السابق، ص:106
4- المرجع السابق نفسه، ص :85.
5- المرجع السابق نفسه،ص:09.
6- المرجع السابق نفسه، ص:09.