مواهب وابداعات للأستاذ: مومني عبد العالي

مرحبا بجميع القراء الأوفياء

السبت، 26 يونيو 2010

كامو في ميزان الإنصاف...في أسباب الاختلاف


يعد (ألبير كامي) أديبا وكاتبا كبيرا لا يختلف في هذا الأمر إثنان، قيل من قبل عن الأديب والشاعر العربي الصميم البحتري: لو كتب درته المشهورة فقط في وصف إيوان كسرى، لكان من أشهر شعراء العصر العباسي، وكذلك الحال يمكن قوله عن الأديب والكاتب الكبير الأستاذ مومني عبد العالي (كامو): فلو كتب إلا رواية (الغريب) فقط لكان بذلك من أعظم وأكبر الكتاب في العصر الحديث. فرغم أفكاره اللامعقولة في هذا الكتاب، وفلسفته العبثية الواضحة فيه، إلا أن القارئ يجد فيه متعة فنية جميلة رائعة، ولغته من الألفاظ والتراكيب ذات إيحاءات ودلالات خاصة، فأنت لا تجدها إلا عند الفطاحل الكبار ، ونوادر الأسفار، فهو يتحكم في ناصيتها، فتأتيه الأفكار من خلالها دون عناء أو جهد، فهو يشبه إلى حد ما أبو الطيب المتنبي حين يقول:

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم

وهذا ما يحدث الآن في الجزائر حول (كامو)، فقد شغل الناس بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيله، وخاصة بعد إعلان مجموعة من رجال الأعمال و بعض المفكرين والأدباء والمثقفين فرنسيين وجزائريين عن تنظيم قافلة من فرنسا إلى الجزائر، وليس العكس، فانقسم بذلك الجزائريون إلى مؤيد للفكرة ومعارض لها، ولكل حججه وأدلته وأعذاره، بل هناك من أقام ندوات حول هذا الموضوع، وتشعبت بذلك الآراء والمواقف، وفتح النقاش لذلك، إلا انه لم يضف شيئا مما عرفاه عن (كامو) وألفناه عن نتاجه الأدبي. والحال أن كل أديب و كاتب، قديما وحديثا، يدور حوله النقد باعتباره إنسانا، وأديبا، ومفكرا، ومبدعا، ومذهبه في الحياة، ومواقفه من قضايا عصره، والبيئة التي أنشأته وترعرع فيها، وشرب من لبنها، وكيف أشتد عوده، وأصبح بذلك كاتبا وأديبا كبيرا!! فإذا كان النتاج الأدبي فيه شيء من الدين والأخلاق والسياسية ونحو ذلك، فلا ينبغي عزل الأدب عن هذه القضايا التي نلمسها عند هذا الأديب أو ذاك!! أما إذا لم يعزل الأديب نفسه عن الدين والأخلاق والسياسية ونحو ذلك، ويحاول غيره من النقاد عزل هذه القضايا عنه، فهذا يعد جناية على الأديب والأدب معا الذي هو مرآة الحياة، بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، بفضائلها ورذائلها، فهو بذلك يعكس بصدق مرحلة من مراحل الحياة، وطور من أطوارها، و(كامو) ليس بعيدا عن هذه الحقيقة بل هو كنهها، إن لم نقل هو عينها!!

فلماذا يفكر الناقد في أدب(كامو) بمعزل عن روافده المختلفة؟ فمن يفعل ذلك فكأنما هو في حقيقة الأمر يفصل الجسد عن الروح، فما الجدوى من الاحتفاظ بالجسم دون الروح؟ أو السعي إلى الفصل بينهما؟!

فمن يطلع على مناقشات وندوات الكتاب والنقاد والمبدعين عندنا في هذه الأيام حول الكاتب والأديب العبثي (كامو) يعتقد وكأن الرجل قد ولد من جديد، وأن الجزائريين لم يعرفوه من قبل وكأنه لم يولد في الجزائر ولم ينشأ فيها!!

فالجزائري الأصيل كان يعتقد منذ الاستقلال أن محاولات الاحتلال الفرنسي لطمس الشخصية الجزائرية، ومقومات الشعب الجزائري الأبي، بغية نشأة جيل جديد لا يعترف بجذوره وثقافته وحضارته ولغته ودينه، ويتنكر لتاريخه الطويل، قد باءت كلها بالفشل الذريع ابتداء من مقاومة الأمير عبد القادر، والحركة الوطنية، ومرورا بالمصلحين الكبار، وتتويجا بثورة التحرير المجيدة التي قضت - وإلى الأبد- على أحلام الاحتلال وأذنابه بالأمس واليوم، للنيل من أصالة الشعب الجزائري الأبي!!

ففي قصة (كامو) الشهيرة (الغريب) لا يخطىء أن يطلق مرة واحدة على الجزائري اسم (محمد) أو (علي) أو (صالح) ونحو ذلك من الأسماء ، بل تراه يقول دائما <<عربي>> أو <<عرب>>(1)، وهذا النوع من الفكر هو في الحقيقة فكرا عنصريا لا يختلف فيه إثنان، أما أصدقائه الفرنسيين فيناديهم بأسمائهم وألقابهم في كتابه (الغريب) وغيره،(ريمون- ماسو-ماري- سالامانو)(2)... بل أكثر من ذلك تراه يشكك في الدين، فهو ملحد لا يعترف بالأديان السماوية، وهذا يتجلى بوضوح عندما سأله القاضي عن عقيدته، فأجابه بأنه لا يؤمن بالمسيحية والرّب(3)، كل ذلك- كما يرى بعضهم – قصد تحريف حقائق التاريخ، ومقومات المجتمع، وإثارة الشبهات والنزاعات لزعزعة استقرار الجزائر، وتغليب الدعوات المضللة المنحرفة، وإنكار فضل العرب عامة، والجزائر خاصة، على حضارة الغرب في العصر الحديث والتي انطلقت من الأندلس نحو فرنسا وألمانيا وغيرهما، وبذلك فهم يفضلون- كما يرى بعضهم- كل ما هو أجنبي، وفرنسي بالخصوص، في المأكل والملبس والإيواء ونحو ذلك قصد التشكيك في أخلاقنا السامية، وعاداتنا العريقة، ومقوماتنا الأصيلة، وخاصة في هذا الوقت بالذات حين أصدرت فرنسا قانون تمجد من خلاله الاحتلال، وهكذا انقسمت النخبة عندنا إلى فريقين: الأول يرى أن الكاتب(كامو) جزائري مولدا ونشأة، ومن ثم يمكن أن نعبث بكل مقومات هذا الشعب الأصيل، وعادات هذا المجتمع العريق، كما عبث الكاتب (كامو) بها، بما فيها القيم الإنسانية، فمن لم يرحم والدته لا تنتظر منه أن يرحم أحدا من الناس، حتى وإن كان صهيونيا!!! ومن هنا يدخلون بتلك القافلة القادمة من باريس بالزغاريد والطبول، والزهور والرقص وكأنهم الفاتحين الجدد، ومن ثم نقول لشهدائنا الأبرار، ومجاهدينا الأخيار: رحمة الله على تضحياتكم الجسام!!، وطموحاتكم وأحلامكم العظام!!!

- وأما الفريق الثاني فيريد أن يجد تبريرا لهذا الأمر، فعمل جاهدا لجعله كاتبا فرنسيا، ومن ثم يصح أن نرفض فكرة القافلة، و لا نرفظ نتاج (كامو) الأدبي، لأنه أدب إنساني على أية حال، شأنه في ذلك شأن جميع الأدباء الأجانب.

و ملخص سيرة ­(كامو) جاءت على لسان النائب العام حين خاطب الحضور قائلا : (يا حضرات المحلفين ، في اليوم التالي لوفاة أمه ، يذهب هذا الرجل للاستحمام مع إحدى الفتيات ... ثم يذهب للضحك أمام الأفلام الكوميدية ، وليس لدي شيء آخر أقوله لكم )(4) وانظر إلى (كامو) حين يقول على لسانه حين وضع والدته في دار المسنين: (...عندما دخلت إلى دار المسنين كانت تبكي كثيرا ...)(5) ثم يقول : (كانت قد تعودت عليها، وربما لذلك السبب لم أكن قد زرتها تقريبا في السنة الأخيرة ... ) (6)

والحال أن الذين يعشقون الأديب (كامو) بخيره و شره ، هم في الحقيقة شربوا من ثقافة فرنسا حتى الثمالة ، فهم- في آرائهم و أفكارهم – يخضعون – دون إحساس منهم- إلى الاستلاب الفكري والحضاري والثقافي الرهيب ، ولهذا تراهم يمدحون الرجل إن أصبح صباح أو أمسى مساء ، ويرونه المثل الأعلى لهم في التسامح و التعايش بين الأفراد والشعوب، كما هو الحال في جنوب أفريقيا- كما يزعمون- يا لها من مقارنة عجيبة وغريبة في آن واحد!! ذلك أن مسالة جنوب أفريقيا تتعلق بالتمييز العنصري ، أما في الجزائر فالمسألة تتعلق بتصفية الاحتلال، و تقرير المصير . وشتان بين الثرى و الثريا كما يقال !!

فالرجل زجّ بوالدته التي أنجبته في دار المسنين ، وقد بكت لذلك كثيرا ، وعندما فارقت الحياة لم يحزن، ولم يذرف دمعة واحدة عليها ، وفي اليوم الموالي يحلق ذقنه، ويذهب للاستحمام ، وهو في غاية الفرح والسرور مع إحدى الفتيات ، وفي المساء يذهب مع هذه الفتاة إلى السينما ، وهو في قمة السعادة والبهجة ، ثم ترافقه هذه الفتاة إلى منزله. فهل هؤلاء المناصرين (لكامو) يريدون أن يغرسوا ويزرعوا في شبابنا و مجتمعنا ، و فلذات أكبادنا، مثل هذه الثقافة ، بل هل بإمكان هؤلاء أن يعملوا على تعليم أبنائهم و أسرهم هذه الثقافة قبل زرعها وغرسها في جزائر المليون و نصف مليون شهيد !!

فمهما كانت تبريرات هؤلاء المفكرين والكتاب والنقاد والدارسين عندنا في تعاطفهم مع (كامو) تمهيدا لاستقبال القافلة بالورود والأحضان والترحاب ، فهذا الأمر لا يخلو من مآرب مقصودة في نفس يعقوب ، لذلك يقال : إذا عرف السبب بطل العجب !! فمن يريد إخراج (كامو) من قبره في فرنسا ، و إرساله إلى مسقط رأسه في الجزائر أمر لم يفعله أحد من قبل، حتى مع الزعماء و الأبطال الكبار الجزائريين من أمثال الأمير عبد القادر ، وما أكثرهم!! أو الذين نفتهم فرنسا أثناء الاحتلال إلى جزيرة كاليدونيا. وما أغربهم!!

لماذا لا تتسامح فرنسا مع الحجاب و الخمار والبرقع الآن بالذات؟! و لماذا تصاب (بهستيريا) ليست مسبوقة من قبل ؟! فأين هؤلاء و هؤلاء من التعايش السلمي والمواطنة والأخوة والعدل والمساواة و نحو ذلك من الشعارات البراقة، والكلمات المعسولة عندما يتعلق الأمر بالجزائر والعرب والإسلام !! هل الحجاب والخمار يرعب فرنسا إلى هذا الحد؟ لم أكن أعرف في وقت من الأوقات أن فرنسا هشة إلى هذا الحد؟! وأن الجزائر قوية إلى هذا الحد؟! فالأولى تخشى من كل شيء وافد إليها من الشرق، والثانية لا تخشى من أي شيء وافد إليها من الغرب.

إن ما يجمع في رأي - وأرجو أن أكون مخطئا – بين الأديب (كامو) والرئيس الفرنسي (ساركوزي) أن الأول ليس من أصول جزائرية ، والثاني ليس من أصول فرنسية، وهذا هو القاسم المشترك بينهما ، لهذا لا يتعجب القاريء ولا يندهش من تصرفاتهما ، كل منهما في مجال اختصاصه .

و صفوة القول : فإن أفكار وآراء ومفاهيم ومذاهب ومناهج الأديب (كامو) لا تنسجم مع روح الجزائري الأصيل، ووجدانه، وأصالته وثقافته في شيء ، وعليه ، فإذا استقبلنا القافلة بالاحتفاء و الأحضان، و الترحاب والورود والزغاريد - سواء ظهرت نية أصحاب هذه الفكرة جلية واضحة أم لم تظهر- فإن (كامو) سيبقى يقتل في كل لحظة جزائريا حيا و ميتا !!

بقلم الأستاذ : مومني عبد العالي

ثانوية بوالروايح - قالمة

قالمة في 19 مارس 2010م

هوامش:

1- الغريب، لألبير كامي، الدار المصرية اللبنانية،ط:2، يناير 2004م- الترجمة:د/محمد غطاس-ص:50

2- المرجع السابق، ص:38

3- المرجع السابق، ص:106

4- المرجع السابق نفسه، ص :85.

5- المرجع السابق نفسه،ص:09.

6- المرجع السابق نفسه، ص:09.

التجـــربة الشعريــــة أو معلقــة الشهيــد


هذا مصطلح نقدي جديد، لم يظهر عند النقاد إلا في العصر الحديث، شأنه في ذلك شأن كثير من المصطلحات النقديّة مثل الوحدة الموضوعيّة، والوحـدة العضويّة في القصيدة العربيّة، والذوق الجمالي للنص، والحداثة في الأدب،والصورة الشعريّة، والإبداع الأدبي ونحو ذلك من المصطلحات النقدية الحديثة.

والتجربة الشعرية وليدة الانفعال بالمؤثرات الخارجية، بعـد أن تنظمها قـوة الخيال المبدع تنظيــما فنيا جميلا رائعا، ترتاح له الــنفس البشـرية، وتـطمئن إلـيه القلوب، معتمدا في ذلك كله على النسيـج الأدبي الـذي أطلـق عليـه النقاد " بعناصر الأدب " والتي من خلالهـا يعبـر الأديـب، شاعرا أو كاتبا، على صدق عواطفه، والأفكار ومعانيها، والخيال الواسع، والأسلوب الرائع !! فعناصر الأدب في تفاعلها وتكاملها داخل الأثر الأدبـي تعبير عن التجـربة الشعرية من جهة،وترجمة للموهبة الفنية التي يمتلكها الأديب من جهة أخرى. كل ذلك ينبغي أن يكون بأسلوب أدبي جميل، يظهر خاصة في امتزاج الفكرة بالعاطفة، وفي الصور الخيالية، والنسق التعبيري الجميل بألفاظه وتراكيبه، وموسيقاه ذات الإيقاع الخاص. وشاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكريا، شارك في الجهاد والنضال والكفـاح مشاركة أدبية وسياسية، فقد آمن بقضيته العادلة وهو في مقتبل العمر، ومن أجل ذلك سجن عدّة مرات، وعذب من أجلها كثيرا، وعانى ما عانى مـن ويلات وخطـوب، وحين فرّ في آخر المطاف من سجون فرنسا الظالمة المعتدية المستبـدة،(1) راح يجول ويجوب أقطارا عربية، وهو في كل مكان يحلّ به في هذا البلد الأمين أو ذاك، يهتف بحرية الجزائر واستقلالها، ويشعل وقود الثورة ، ويثير حماس الجماهير، لأنه كـان يؤمن أشد الإيمان بهذه الثورة العظيمة، ويرى أنـها طريق الخلاص لهـذا الشعـب الأبي، بعد كل التجارب الماضية،من أجل رفع راية الحرية في الجزائر خفاقة فوق ربوع البلاد!!

وقصيدة شاعر الثورة مفدي زكرياء(الذبيح الصاعد) تناولت موضوعا واحدا، هو إعدام الشهيد البطل(أحمد زبانا)، وهي قصيدة صورت جزءا من أحداث عصرنا وثورتنا، وعبرت عن الواقع السياسي والاجتماعي والنفسي لهذه الأمة من خلال ثورة التحرير المجيدة!! فما التعابير التي استعان بها الشاعر لتجسيد هذه القضية التي دافع عنها؟ و ماهي عناصر التعبير الشعري التي سخرها في نظم قصيدته؟

والشاعر مفدي زكرياء من الشعراء الكبار، بدأ حياته الأدبية والسياسية منذ نعومة أظافره، فكان بذلك رجلا محنكا، له باع طويل في تجربته الشعرية، كيف لا؟ وهو الذي إنظم إلى صفوف العمل السياسي والوطني منذ أوائل الثلاثينات،فساهم بذلك مساهمة فعالة في النشاط الأدبي والسياسي،ودخل السجون الفرنسية خمس مرات قبل الثورة وأثنائها،فواكب بذلك شعره الواقع الجزائري في جميع مراحل كفاحه ونضاله وجهاده.فاتصف شعره بصدق التعبير،وجزالة اللفظ،وله قدرة كبيرة في شعره الوطني والثوري التحرري قدرة فائقة،لا يجاريه في ذلك أحد من الشعراء قديما وحديثا،فجمع في شعره هذا عصارة قلب فياض عاش أحداث بلاده عن قرب،في السجون والمعتقلات،وشهد رؤوس الشهداء الأبرار تحصد بالمقصلة من قبل المحتل الظالم المستبد في ساحة سجن (بربروس)الرهيب الذي قال عنه وهو يخاطب فرنسا المعتدية:-


واجعلي (بربروس) مثوى الضحايا إن في بربروس مجدا تليدا (2)


وهذه القصيدة نظمت بسجن (بربروس)أين كان شاعر الثورة من نزلائه، وفي القاعة التاسعة، في الهزيع الثاني من الليل- كما شهد الشاعر- وأثناء تنفيذ حكم الإعدام على أول شهيد دشن المقصلة،ألا وهو المرحوم (أحمد زبانا) وذلك في ليلة الثامن عشرمن شهر جويلية من عام ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين!!وهي قصيدة عنوانها((الذبيح الصاعد))وعدد أبياتها ثمانية وستون بيتا.فحق لكل ناقد أو أديب، شاعرا أو كاتبا،أن يطلق عليها(بدالية مفدي زكرياء)أو (دالية الثورة الجزائرية)،أو(دالية الشهيد)،وأن تكتب من ماء من ذهب وتعلق على مقام الشهيد، فتكون بذلك((معلقة الشهيد)).كيف لا؟وهي من أجمل وأروع وأحسن قصائد الثورة التي قيلت في الشهيد(زبانا)ومن خلاله جميع شهداء الوطن!!

إن مثل هـذا الشعـر الثوري التحـرري يتـرك في القـاري والناس جميعـا أثرا وإعجابا كبيرين، فهو ينمي الإحساس بالجمال والفن على حد سـواء. فالشـاعر لــم يكتف في قصيدته بتقديم الأخبار عن الشهيد(زبانا)ولم يجعل قصــده الوقـوف علـى دقائق الأشياء، وما يتصل بها من حقائق ثورية، وإنما وجد في استشهاد البطل (زبانا) مظهرا من مظاهر البطولة النادرة، والشجاعة الفائقة، والبأس الشديد، ودعوة إلى التفكير والتأمل في مثل هذه المواقف الرائعة، فخلع عليها من نفسه المتأثرة ما يصوره خياله بلغة رقيقة تحمل كثيرا من معاني الفداء والبطولة والشجاعة والأقدام!! وتراكيب القصيدة فيها نغمة وإيقاع يتصف بالتحدي الذي عرفه البطل، ومن خلاله كل الشعب الجزائري الأبي، فنقل إلينا شاعر الثورة هذا الانفعال الذي انتابه لحظة وقوع الجريمة!! ولغته هي تراكيب وجمل تصلنا بشعوره، فيصيبنا ما أصابه من إعجاب بهذا البطل الشهيد، ويتحفنا بما أوحى له هذا الموضوع من صور وظلال!!

ولم يكتف الشاعر في رائعة الجميلة هذه بما يحضره من ألفاظ وتراكيب وعبارات أنيقة، وعواطف جياشة، وخيال واسع، بل راح يقتبس من القرآن الكريم، ويأخذ منه، مما يدعم موضوعه هذا، ليزداد عمقا وإيقاعا وجمالا.

فانظر إلى قوله حين يصف صعود روح البطل الشهيد(زبانا)إلى السموات:-

وتسامى كالروح في ليلة القـــد

ر،سلاما،يشيع في الكون عيدا

وامتطى مذبح البطولة معراجا

ووافى السمـاء، يرجـو المزيــدا

وتــعــالــى مثـل المـؤذن يتـلـو

كلمات الهدى، ويدعو الرقــودا(3)


فالاقتباس واضح كل الوضوح من خلال هذه الأبيات الثلاثة، ففي البيت الأول اقتباس من سورة القدر : ((إن أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر))، والبيت الثاني مقتبس من سورة الإسراء في قوله عز وجل: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله...)). والاقتباس في البيت الثالث يتمثل في ألفاظ الآذان: ((الله أكبر، الله أكبر)).

والطريقة التعبيرية التي سلكها الشاعر لعرض معانيه وأفكاره والحقائق على سبيل الإثارة والتوجيه،وعناصرها كثيرة أهمها: المعاني والأفكار،والعواطف المختلفة، والصور الرائعة، والخيال الواسع، والتعابير الجميلة الأنيقة!!.

فالشاعر مفدي زكرياء أحس فعلا وشعر بقضيته الوطنية، فعبر بجمال رائع بديع عن عواطفه وأحاسيسه ومشاعره وانفعالاته، فشعره يعد بحق شعرا ثوريا تحرريا، فحين يقرأه كل إنسان أو يسمعه يجد فيه ـ لا محالة ـ لذة فنية رائعة جميلة!!فشعره على العموم يتصل بذوق القارئ ووجدانه وحسه وشعوره،وهو في الوقت نفسه يمس ملكة التقدير للجمال عند كل قارئ أو متلقي لهذه القصيدة الرائعة الجميلة أو تلك، فالأدب عامة والشعر خاصة من الفنون الجميلة كالرسم، والموسيقى،والنحت وغير ذلك من الفنون الجميلة، وأداته الألفاظ اللغوية.

فشاعر الثورة مفدي زكرياء عاش وقائع عصره، وأحداث ثورته، من بدايتها، فهو يشقى بها ويسعد، يحب ويكره، يفرح ويتألم، يقوى ويضعف ونحو ذلك،فتتحرك أحاسيسه، وتتأجج عواطفه، وتلتهب مشاعره، ويفيض وجدانه، فيعبر عن ذلك كله تعبيرا صادقا أمينا، متخذا في ذلك الألفاظ والكلمات والعبارات والتراكيب أداة لهذا التعبير، فكان بذلك تعبيره فيه كثير من مقومات الفن في جمال التعبير، وهو بذلك يعبر عن تجربته الشعرية تعبيرا فنيا جميلا رائعا!!

فانظر إلى اللوحة الأولى التي صور الشاعر فيها الشهيد البطل ((زبانا))في لحظة عصيبة دقيقة، وهو يقتاد إلى المقصلة من طرف عصابات فرنسا:

قـام يخـتــال كالمـسيــح وئيـدا

يتهادى نشوان يتـلـو النشيــدا

باسم الثغر، كالملاك، أو كالط

ـــفل،يستقبل الصباح الجديدا

شامخـا أنــفــه،جــلالا وتيــهـا رافعا

رأسه ينــاجي الخلــودا

رافلا في خلاخل،زغردت تمـ

ـــلأ من لحنها الفضاء البعيدا(4)!


فالشاعر صادق في تجربته الشعرية كل الصدق ، لذلك لا نراه يصور البطل فزعا كئيبا ، باد عليه الأسى والحزن، فهذه الصورة ليست من شيمة الأبطال الشجعان الذين يحملون رسالة الخلود والبقاء، و يصنعون التاريخ بمواقفهم وبطولاتهم، ومفاخرهم وأيامهم ووقائعهم، بل نراه يصوره رابط الجأش، قوي الإرادة، مؤمنا بقضيته العادلة، شامخا رأسه شموخ الجبال، يشق هدوء الليل بصوته، فيوقظ النائمين من أمثاله في زنزانتهم، فيردد بملء فيه، ويتجاوب معه أصدقائه في السجن :"تحيا الجزائر....تحيا الجزائر ....تحيا الجزائر" إنها كلمات الخلود، تغلغلت في قلوب السامعين، واستقرت فيه، فرددها السجن معه ترديدا قبل أن تصعد روحه الطاهرة إلى ربها، وتصل السماء، وتعرج بعيدا بعيدا لتكون مع الشهداء والصدقين والصالحين الذين زرعوا الخير في العالمين وخاصة في بلادهم الجزائر، فجزاهم الله بذلك خير الجزاء!! إلى أن يقول عن الشهيد (زبانا):

صرخـة ترجـف العوالـم منهـا ونـــداء مــضى يــهـز الــوجـودا

"إشنقوني ،فلست أخشى حبالا واصلبوني ،فلست أخشى حديدا(5)"


يا لها من تجربة شعرية رائعة، لا نجد لها مثيلا في الشعر الثوري التحرري، فقد خلدت هذه التجربة البطل الشهيد و الشاعر معا!!

وانظر كيف عايش شاعر الثورة مفدي زكرياء هذه التجربة الشعرية، وكيف أحسها بوعي تام، فأضحت بذلك عبارة عن لوحة فنية رائعة، أو ملحمة من ملاحم الأمة خلدها شاعر من الشعراء الكبار!! فالشاعر يدرك أن في استشهاد كل بطل من أبطال الثورة مثل الشهيد (زبانا) حياة للشعب الجزائري، وموت لفرنسا المحتلة، فالاستشهاد في ساحة الشرف وقود للثورة، فتتأجج بذلك أكثر فأكثر، فلا عويل ولا بكاء ولا ندب على البطل، فعايش الشاعر هذه التجربة الشعرية بلحمه ودمه، فلم يستعمل المبالغة في تعداد مناقب الشهيد من شجاعة وبطولة وثبات إلى حد الأسطورة مثل كثير من الشعراء القدماء والمحدثين، فانظر- مثلا- إلى أبي الطيب المتنبي حين يصف شجاعة ممدوحه سيف الدولة الحمداني:-

وصول إلى المستصعبات بخيله فلو كان قرت الشمس ماء لأوردا


أو قول عمرو بن كلثوم:

إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا


فالصدق في التعبير تراه واضحا كل الوضوح عند شاعر الثورة مفدي زكرياء، شأنه في ذلك شأن شاعر المعلقات، بل قل:شاعر الحوليات، زهير بن أبي سلمى الذي قيل عنه أنه لا يمدح أحدا إلا بما هو فيه، كذلك فعل مفدي زكرياء في وصف الشهيد(زبانا)، فهذه حقائق تاريخية،وأحداث واقعية، ومآسي حقيقية عاشها الشاعر، ومن معه، بكل وجدانه في سجن (بربروس) أوليس هو القائل عن الشهيد (زبانا) :-

قولة، ردد الزمان صداهـا قدسيـــا، فأحســن التـرديــدا

احفظــوها، زكيـة كالمثانـي وانقلوها، للجيل، ذكرا مجيدا

وأقيموا، من شرعها صلوات طيبـات، ولقـنـوهــا الــوليـدا(6)


ثم يرسم الشاعر صورة شعرية رائعة للبطل الشهيد (زبانا) عند انتقال روحه الطاهرة الزكية إلى بارئها، فانظر إلى هذه التجربة الشعرية، حين يقول:-

يــــا زبـــانــا أبلـــغ رفــاقــك في السموات، قد حفظنا العهودا

وارو عن ثورة الجزائر للأفــ ــــلاك، والكائنات، ذكرا مجيدا(7)

إلى أن يقول عن هذه الثورة التي شارك فيها الجميع: الكبير والصغير، اليافع والكهل، الرجل والمرأة وما كان يعانيه الشعب الجزائري،وجميع شرائحه الإجتماعية::-

ليس في الأرض سادة وعبيــد كيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!

أمن العدل،صاحب الدار يشقى ودخيــل بهـا، يعيـش سعيـــدا؟!

أمن العدل،صاحب الدار يعرى وغريب يحتل قصــرا مشيدا؟!

ويجـــوع ابنهــا، فيعـــدم قوتــا وينال الدخيل عيشـا رغيـــدا؟!

ويبيــح المستعمــرون حمـاهــا ويظل ابنها، طريدا شريـــدا؟(8)!


هل الشاعر بالغ في نقل هذه التجربة الشعرية عن واقع الشعب الجزائري؟! أليست هذه حقائق فعلا عاشها الشعب الجزائري بمرارة وبؤس وشقاء؟! ألم يفعل الاستعمار بهذا الشعب أكثر من ذلك؟! فجرائم فرنسا في الجزائر لا تحصى ولا تعد، فهي كثيرة وخطيرة يندى لها الجبين، فهي مأساة شعب لم يرها التاريخ من قبل، ولم يسمع بها قط،فمهما حاول الشاعر أن يرتقي بوصفه لهذا المشهد أو ذاك، أو هذه المأساة أو تلك، فلا يستطيع أن يفيها حقها من الوصف لعظمة هذا المشهد أو تلك المأساة، ألم يقل قبله أبو تمام في وصف معركة(عمورية)؟!:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب

ثم يلتف الشاعر إلى فرنسا الظالمة المستبدة مخاطبا إياها:-

يا فرنسا، كفــى خداعــا

فإنـا يا فرنســا، لقـد مللنــا الوعــودا

يا فرنسا،أمطري حديدا ونارا

وامليء الأرض والسماء جنودا(9)


فالشاعر مولع بالقضية الوطنية منذ نعومة أظافره، يدافع عنها بكل جوارحه وأحاسيسه، وعواطفه وانفعالاته، فقد تشبع بالروح الوطنية حتى النخاع، شأنه في ذلك شأن كثير من الشباب الجزائري، فروحه وعقله ووجدانه كل في حبّ الوطن!! ولا يستطيع أحد من الناس أن يزايد عليه، كيف لا؟ وهو الذي اشتغل بالأدب والسياسة في خدمة القضية الوطنية، فعايش جميع الأحداث عن قرب، بل شارك فيها مشاركة فعالة، فإذا كان الأمير عبد القادر قد جمع بين القلم والسيف، شأنه في ذلك شأن أسلافه من العرب الأقحاح، والفرسان الشجعان الذين لا يشق لهم غبار مثل عنترة بن شداد العبسي، وأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني، ومحمود سامي البارودي، فإن شاعر الثورة مفدي زكرياء جمع بين القلم والسياسة، فكان له باع طويل في الأدب والشعر الثوري التحرري خاصة، بالإضافة إلى الأحداث التي مرت بها الجزائر قبل غرة نوفمبر المجيدة.

وهكذا عايش الشاعر التجربة الشعرية، فاختمرت الفكرة في رأسه، وسنة بعد سنة، أصبح مسكونا بها، مصابا بالهلوسة، فحين يمسي لا ينس شيئا عن قضيته، فقد عايش أحداث وطنية معايشة وجدانية وروحية، فكان تعبيره عنها تعبيرا صادقا أمينا نابعا من أعماق مشاعره وأحاسيسه وعواطفه وانفعالاته، كيف لا؟! وهو الذي اكتوى بنارها، وسجن من اجلها عدة مرات، وهام بها كثيرا، فبقيت غورا عميقا في وجدانه وكيانه حتى الممات.

ولم يكتف الشاعر بهذا الوصف الرائع للشهيد البطل، بل راح يناجي روحه الزكية الطاهرة وأرواح الشهداء:-

يـــا زبــانـا ويـــا رفــاق زبان

عشتم كالوجود، دهـرا مــديــدا!!

كل من في البلاد أضحى زبانا

وتمنــــى بــأن يمــوت شهيــدا!!

أنتم يا رفاق، قــــربـان شعــب

كنتم البعــث فيــه والتجــديــدا!!

فاقبلوها ابتهالة، صنع الــرشــ

ـــاش أوزانها،فصارت قصيدا!!

واستريحوا إلى جـــوار كريــم

واطمئنـوا، فإننـــا لــن نحيـــدا(10)!!


فهذه التجربة الشعرية الفياضة بالمشاعر الرقيقة، والأحاسيس النبيلة، والانفعالات القوية، والعواطف الجياشة التي أحسها الشاعر، وعايشها معايشة صادقة، فعرف كيف يستشهد الأبطال، وخاصة حين يطبق الليل بسواده الحالك، فتخرج الخفافيش من أوكارها في هذه الليلة الليلاء، وتقود هذا البطل أو ذاك نحو مذبح الحرية، وهو مكبل بالأغلال والقيود، يخشونه إذا كان طليقا، فيعدم هذا الشهيد أو ذاك، فترى السجن كله يردد كلمات الهدى مع هذا البطل أو ذاك حتى أشرقت شمس الحرية، ونال هذا الشعب الأبي كرامته وعزته وشرفه ودينه ولسانه، بعد كفاح طويل ومرير، فلم يثنيه ذلك عن تقديم التضحيات الواحدة تلو الأخرى عبر هذه السنين الطويلة، ابتداءً من المقاومة الشعبية، ومرورا بالنضال السياسي، والانتفاضات العديدة مثل مأساة الثامن ماي ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، التي قال عنها محمد العيد آل خليفة:-

فضائع ماي كذبت كــــل مزعــم

لهــم ورمــت مــا روجــوه بافـــلاس

ديار مـــن السكــان تخلــى نكاية

وعسفــا، وأحيـــاء تســـاق لأرمــاس

وشيب وشبــان يســـامــون ذلــة

بأنــواع مكـــر لا تحـــد بمقــــيـــاس

وغيد من البيض الحسان أوانس

تهـــان علـــى أيـــدي أراذل أنـكــاس

ويسلبن من حلي لهــن مرصــع

بكــل كريــم مــن جمـــان وألمــــاس

وينكبن في عرض لهــن مطهـر (11)

مصون الحواشي طيب العرف كالآسي


هكذا عبر الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة - رحمه الله - عن إحساسه العميق، وشعوره الرقيق، وعواطفه الجياشة، وخياله الواسع، إزاء مأساة أو انتفاضة الثامن ماي ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين من القرن الماضي، وخاصة عندما قضت هذه الأحداث المروعة الأليمة حقا على ادعائهم المبادئ الإنسانية، التي روجوا لها كثيرا، والمتمثلة في الحرية والإخاء والمساواة!! فكانت الثورة بذلك نتيجة حتمية لهذا الصراع الطويل والمرير والشاق لنيل الحرية والأنعتاق!!.


الأستاذ:مومني عبد العالي

ثانوية بوالروايح- قالمة-



هوامش:
1
-المختار في الأدب والقراءة،السنة الثالثة أدبي،ص:214
2-ديوان اللهب المقدس،لمفدي زكرياء.
3- المختار في الأدب والنصوص والنقد والتراجم الأدبية للسنة الثالثة ثانوي/ص(419-420) من(3-10)
11( المختار في الأدب والقراءة،السنة الأولى علمي،ص:12