أمر اللّسان العربي عامةً والشــاعــر بخـاصةٍ كــأمـر اللّغـة الشّعـريّـة واللّغـة المعياريّة مـن وجــوه كثيــرة ، فقـد أمتـاز العـرب عن غيرهم بالفصاحة والبلاغة والبيـان ، لذلك جاء شعرهم قويًّا في التعبير ، صــادقًا في الإحساس ، متجاوبا مع روح القارئ ووجدانه ، حتى قيل عنه بأنّه " ديوان العرب " .
واللّغة الشّعريّة ، قديماً وحديثاً ، تختلف اختـلافاً كبيراً عن اللّغة المعياريّة في جـوانب عديـدة ، وهـذه الظاهـرة اللّغويّة اعتبـرها الخليل بن أحمد الفراهيدي بأنّها توهـم من قبل الشاعر، ولم يقل بالخطإ لدى الشاعر. وهي الآن تعرف عن الخليل " بالإعراب عن التوهّم" . أمّا عنـد النّحويّين فهـي أخطاء نحويّة وجب تجاوزها ، وعدم الأخذ بها، وهـذا ما كان بين الشعراء والنّحـاة في ذلك الوقت، وبخاصة بين الفرزدق وعبد الله بن إسحاق الحضرمي الـذي كـان يراجع أشعاره باستمرار ولا يبالي بما يردّ به عليه من كلام!! .
أمّا عند اللغويين كابن عصفور مثلاً فهي من ضرائـر الشّعـر ، فالمـخالفـة لا تكون في ضوابط النّحو وقواعـده ، فهذا أمــرٌ مرفــوض لا يعتدّ به بأيّ حـالٍ مـن الأحــوال ، فيجـوز ــ مثــلاً ــ أن تصـرف الممنـوع من الصّرف فتقول " أغبرٌ " بالتنويـن ، أو تسكّـن المتحـرّك فتقـول (وهْـو)بـدلاً مـن(وهُـوَ )، وتجــعــل هـمـزة الوصل همزة قطع والعكس صحيح، فهذا الأمر وغيره لا يضر بالنحو في شيء ، ولذلك قالوا: ما يجوز في الشّعر لا يجوز في النّثر.
وعند المحدثين، وفي ضوء التّفسير النّقدي الحديث، فإنّ الشّاعر يحـلق عن طريق الخيال المبدع إلى الآفاق البعيـــدة الرّحبـة الواسـعـة، فيبتعـد بذلك، قليلاً أو كثيراً، عن اللغة المعياريّة أو اللغة المعجـميّة، وتتــراءى لـه عوالـم جديدة، وآراء عديدة، وأحاسيس متنوّعة، وعواطف جياشة، لم يألفهـا أحـد من قبل، فـلا تستطيع تلك اللغة العاديّة المعجميّة أن تعبّر كما أحسّ به هذا الشاعـــر العبـقري، والأديب الألمعي، فيحطّم تلك اللغة المعياريّة بطـريقـة خاصّة ليشكّل بذلك لغـة جديدة وهي اللّغة الشّعريّة . يقول عبــــد القـــاهــر الجـرجاني فـي كتــابـه المشهـور " دلائـل الإعجاز": << فليت شعـــري بأن كان لفظ ( أسد ) قد نقل عمّا وُضع له في اللغة و أزيل عنه ، وجعــل يــراد بـه ( الشجاع ) هكذا غفلاً ساذجاً ، فمن أين يجب أن يكون قولنا: أسدٌ ، أبلغ من قولنا: شجاعٌ>> .(1)
فكيف تكــون هــذه اللغة الشّعــريّة يا ترى عند الشعراء، وبخـاصـة الشاعـر الفحل؟! من أمـثال عنتـرة بن شــدّاد، والنــابــغـة الذبيــاني، وأبي الطيب المتنبي، والبحتري ، والأمير عبــد القـــادر الجزائري، ومحمد العيـد آل خليفـة، ومفــــدي زكرياء . وليس من الإنصـاف في شيء إذا أقدحـــتُ فــي حــقِّ أحــدٍ مـن هـؤلاء الشّعراء مهما كـــانت منزلتــه الأدبيّة، أو ألصقت به شيئاً لم يكن فيه، فهـذا لا يعدّ من النّقد في شيء ، فكــل شاعر مــن هؤلاء الشعراء له مكانته ومنزلته الأدبيّة ، شهد له بذلك كل من وقف عند نتاجه الأدبي قديماً وحديثاً .
فما هي اللّغة المعياريّة عند الغرب والعرب علـــى حــدّ سـواء ؟ وكيف ينظر إليها، وماهيتها ؟ يقـول العالـم الغربي (دي سوسير) في أواخر القرن التاسع عشر أنّ " موضوع علـم اللّغة الصّحيح والوحيد هو اللّغة في ذاتها ومن أجل ذاتها". ويقول العالـم العربـي(ابن جنّي) في كتابه المشهور(الخصائص):" أما حدُّها فإنّها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". فكيف كــانت اللّغة الشّعريّة عند عنترة بن شداد وأمثاله في الجاهلية؟ فانظر حيــن يصـور صبره على مجالدة الأعـداء ، وعلى عدم صـبره على فراق(عبلة):
بَكــَيْت ُمن الْبَيْنِ الْمـشِتِّ وإنّني
صبورٌ على طعن القنا لو عَلِمْتُمُ
أقــاتـــل كــــــلُّ جبُّــــارٍ عنـــيدٍ
أقــاتـــل كــــــلُّ جبُّــــارٍ عنـــيدٍ
ويقتلــنـي الفــــــراق بلا قتــال(2)
فكيف استطاع الشاعر أن يستحضر هذه الصّورة الشّعـريّة ومـن وراءها هذه اللغة الشّعريّة، في تلك اللحظة العصيبة ؟ إنّـه في ساحـة الوغى، يقـاتـل ببســالـــة رائعـة، وبطـولة نادرة، كل جبّار عنيد في هذه المعركـــة أو تلك، فكـيف حضرت في تلك اللحظة بالذات صورة(عبلة) التي يكون الشاعر ضعيفاً أمامها، يتألّم كثيراً لفراقها، فيقتله هذا الفراق بلا قتال!! ما أجمــل هـذه الصـورة ومـا أروعـها، ومــا أجمل هذه اللّغة الشّعريّة وما أبدعها !! .
وانظر إلى شاعر الاعتذاريــات النـــابغــة الذبياني حين يعتذر بكـلّ جـوارحه للممدوح ، ويبن الشكوى له ، إذ يقول :
حلفتُ فـلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء الله للمرء مَذْهَبُ
لئن كنْتَ قد بُلِّغْتَ عَنِّي خيانَةً
لئن كنْتَ قد بُلِّغْتَ عَنِّي خيانَةً
لمبْلغك الواشي أَغَشُّ وأَكْذَبُ
إلى أن يقول :
فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيـد، كأنّني
إلى النّاس مَطْلِيٌّ به الْقَارُ أَجْرَبُ(3)
فالشاعر المسكين يُقسمُ حتى يقطع الشكّ باليقين، وليس لــه طـريـــق آخــر غير القسم، فقد بلغ الممدوح أنّ الشاعر خانه خيانة لا تغتفر، فيؤكـــد لــــه أنّ هذا الواشي الذي أبلغك بهذه الخيانة هو في الحقيقة أغـش وأكـذب !! كيـف لا ؟ والشاعر يعيش بنوائل وعطايا الممدوح، فخيره أسبق، فكيف يخونه ؟! هــذه اللغة الشعريّة الرّائعة الجميلة التي لا نجـد لها نظيـراًَ في غرض الإعتذاريــــات قــديماً وحديثاً، هي لغة مبتكرة فيها كثير مـن الأحاسيس والعواطف النابعــة مــن أعماق الوجدان !! وتأمل بعدها حين لم يجد طريقاً للخلاص من وعيـــد الممدوح له، فهو قد أصبح مثل (النّاقــــة) التي أصيبت بالجــرب، واستعمــل لهـا دواء، لـه رائحـة شديدة، فكلّمــا اقتربــت مــن قطيع النوق كلّما ابتعـد عنها !! .
فهذا هو حال الشاعر المسكين مع الناس، فكلّمــا أقتــرب منهم ابتعـدوا عنه ، لأنّ في ذلك خـوفاً علـــى أرواحهم أن تزهق من قبل الممدوح ، وهو قادرٌ على ذلك لأنّه ملك . فهذه اللّغـــة الشّعريّة قلّما نجـدها عند شـاعر آخر ، فهي لغة جميلة رائعـة تصـــوّر الشّخــص المغضوب عليه من قبل الحاكم، فلا يقترب منه أحدٌ خوفاً مــن بطش هذا الأخير، وهذه الصورة الشّعريّة ما زالت إلى يومنا هذا في جميع مناحــــي الحيـاة الخاصَّة والعامَّة !! .
وهذا شاعر الحكمة أبو الطيب المتنبي يفرّق بين الرجل الشّجــاع والجبــــان. فلا أحد من البشر في العالم كلّه يزعم أمام النّاس أنّه جبان، بل يزعـــم دائماً أنّـــه رجل شجـاع ، ولا ينبغي أن يشك أحدٌ في شجاعـتـــــه، لأنّهــا رمـز الــرجــولـة والمروءة. فمـا العمل إذن حتــى نستطيـــع أن نفــرّق بيـن الرجلين يا ترى ؟! فقد أختار الشاعر أبــو الطيب المتنبي ميدان الوغى ، ومقارعة السيوف ، هي المحكُّ الأساسي في التّفريق بين الرّجل الشجاع والجبان ، إذ يقول :
فللّه وقتٌ! ذوَّب الغش ناره فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضبارمُ(4)
مماّ يتعجّب الشاعــر في مطلـــع هـــذا البيت؟ إنّـــه يتعجّب مـن هـذا الوقــت العصيب أثناء المعركة حين يلتحـم الجيشان فيظهر الشجاع من الجبـــان ، فالــذي يصمد ببسالة نادرة، ويبلي بلاءً حسناً، دون خـوف أو وجـلٍ، ولا يهرب من المعركة، ولا يتراجع عنها قيد أنملة هو الرجل الشجاع المقدام المغوار، والذي لا يشق له غبار !!، أمّا الذي يفـرّ مـن المعـركة كلّـَما وجد سبيلاً إلى ذلك، أو يتخفى وراء الأبطـال الشجـعان، فهو رجل جبان لا خير فيه !! وانظر إلى الشاعر كيف استعمل هذه اللّغة الشّعريّة الرّائعة الجميلة في هذا البيت ونحوه ، فقد استعان بثلاث كلمات هي (الذوبان والغش والنّار) فلم يستعملها ــ كما قال عبد القاهر الجرجـاني ــ هكذا غفـلاً ساذجاً، فالمعادن تصهر دائماً بالنّار ، فتظهر بذلك الشوائب ، إذا كان هذا المعدن أو ذاك مغشـوشاً، ومن هنا ندرك : (أنّ الرّجال معادن) ، في الحروب خاصة، وفي الحياة عامة . فالرّجال معادن : فهذا من معدن أصيل، قد يكون ذهباً خالصاً، فهـو الرّجـل الأصيل الشّـجاع الطيب،تحبّه العامة والخاصّة من النّاس. أمّـا إذا كـان من معدن غير أصيل، تشوبه الشوائب، فهو رجل غير أصيل جبان خبيث، يكرهـه الناس، وتحتقـره العيون ، ويشار إليه بالبنان : هذا رجل جبان !! فهو لا يمكث في المعركة ، بل يهرب منها ، على خلاف الرجـل الشّجـاع الذي يبقى في الميـدان، في ساحة الوغى، لا يزحزحه إيمانه القويُّ بالنّصر المبين ، فإمّا النّصـر أو الشهـادة !! فكيف توفّرت هذه المعاني السّاميـة، والصّور الرّائعة، والمشاهد الجميلة لـدى الشاعر؟ بل وأكثر مـن ذلك : كيف استطاع توظيفها توظيفاً بارعاً وذكيّاً ترتاح له النّفس، وتطمئن إليه ما في الصّـدور. هـل يستطـيع الإنسـان بكل بساطة أن يعبّر عن هذه المعاني الرّائعـة، والمقاصـد الجميـلة، والأحاسيس النّبيلة، والمشاعر الرّقيقة، ويقول : << أنّ الرّجال معادن >> بهذا الأسلوب وهذه اللغة الرائعة الجميلة النّبيلة الرّقيقة ؟!! وهل وظّف الشّاعر كلمة ( صارم أو ضبارم) هكذا دون أن يقصد من وراء ذلك شيئاً ؟! فكلمة ( صارم ) أو( ضبارم) أحسن وأبلغ وأجمل من كـلمة شجاع، أليست هذه هي اللغة الشّعريّة عند القدماء و المحدثين ؟!.
أمّا الشاعر البحتري فهو معروفٌ بقدرته علـى الوصف، ومن غـرر قصائده في هذا الشـأن ( وصف إيوان كسرى )، إذ يقول عن نفسه قبل وصف الإيوان:
صنت نفسي عمّا يُدَنِّسُ نفسـي
وترفّعتُ عَنْ جدا كـل جِبْسِ
وتماسكْتُ حين زعزعني الدّهـ
وتماسكْتُ حين زعزعني الدّهـ
رُ ألتماساً منه لتعسي ونكسي
حضرت رحلتي الهمومُ فوجّهْـ
حضرت رحلتي الهمومُ فوجّهْـ
تُ إلى أبيض المدائن عنْسي
إلى أن يقول واصفاً إيوان كسرى باختصار :
فكأن الجرماز من عدم الأنــــ
س وإخلاقـــه بنيّـــــة رمْــسِ
لو تراه علمت أنّ الليــــالـــــي
لو تراه علمت أنّ الليــــالـــــي
جعلت فيه مأتماً بعد عُرْسِ(5)
فاللغة الشعرية التي استعملها الشاعر لغة جميلة رائعة ،فهـو مـن خلالها يحافظ على نفسه من كل سوء يدنسها، ولا يقدم يده لكل لئيم جبـان، فهـو لا يستسلم للهزيمة بسهولة، فهو شديد الصبـر حين نـزل عليه الدهـر بهمـومه ونوائبه يريد إذلال الشاعر و هلاكه.
والإيوان عند الشاعر يشبه- بسبب عوامل الدهر- أبنية القبور، نبت الربيع عليها، إذا وقف الإنسان عليه لتأكـد أن الدهر جعل منه مكانًا للبكاء والعويل، بعدما كان محلاًّ للفرحة والسرور.
فمن يستطيع أن يبتكر هذه اللغة الشعرية الرائعة؟ ومن تـراه بمقـدوره أن يجعلك تشاركه عواطفه وأحاسيسه ومشاعره اتجاه هـذا المنظـر الكئيب وهذا المشهد الحزين؟!.
فالشاعر فقط – مثـل البحتري – يستطيع أن يجعل من اللغة المعيارية لغة شعرية يحلق بها كالطائر في الأفق البعيد، ولا يجاريه أحد إلاّ إذا كانت لديه لغة شعرية.
وانظر في المقابـل إلى الشاعـر الجـزائري الأمير عبد القادر، فشعره في الغالب لم يسلم من بعض عيوب عصر الضعف مثل الجفاف في اللغة،حيث تجد نقصاً في الإيحاء فيها، و تكرار بعض الألفاظ،مما أبعدها،كثيراً أو قليلاً،عن لغة الشعر،عند الشعراء الكبار، فهو أسير عصره، شأنه في ذلك شأن العلامة الكبير ابن خلدون،فعلمه غزير،ولغته في الغالب ضعيفة، فرغم أنه يعدُّ طفرة في بعض العلوم التي اشتهر بها،وسبق عصره بقرون طويلة،إلاَّ أن لغته لا تتمشى مع هذه الطفرة الكبيرة!! .
يقول الأمير عبد القادر مثلاً:
ورثنا سؤددا للعُرب يبقى
وما تبقى السماء ولا الجـبال
بالمجد القديم علت قريش
بالمجد القديم علت قريش
ومنا فـوق ذا طابت فعــال(6)
فبأي لغة شعرية كان يكتب الأمير يا ترى؟إنها لغة عصر الضعـف، لذلك تجد هذه اللغة لا تلحق في الآفاق الرحبة، ولا تبتكر شعوراً نبيـلا، ولا تبتـدع خيالاً رحباً،فتحوَّل بذلك اللغة المعيارية إلى لغة شعرية جميلة!! .
وها هو محمد العيد آل خليفة يتكلم على لسـان جيش التحرير، مفتخراً به، إذ يقول:
نحن- جيشَ التحرير- جندُ النضال
نحن أسد الفدى، نمور النزال
دمـدم الطبـل للنفيــــــر فثـــــــرنـا
دمـدم الطبـل للنفيــــــر فثـــــــرنـا
وهزرنا البـلاد كالزلـزال(7)
فانظر إلى لغة الشاعر الذي عاش في العصر الحديث، فكان بذلك أسير لغة هذا العصر،فهي لا تخلو من النغمات الممتدة،وهي نغمات مناسبة وملائمة للفخر بالأمجاد، والبطولات الوطنية. فاللغـة الشعريـة عند محمد العيد هي لغة شعر الحماسة، فنجد كثيرا من الكلمات الموحية بهذا الجو الملحمي في مسيرة الشعب الجزائري،فاستعمل(النزال والنضال والتحرير والفدى والنفير والثورة والزلزال) وغيرها من الألفاظ الموحية المعبرة المشخصة للمعاني الحربية!! فجاءت اللغة بذلك لغة شعرية جميلة مؤثرة رائعة!! .
أما شاعر الثورة الجزائرية(مفدي زكرياء) فيعجز اللسان أن يعبر عن لغته الشعرية،فهو شاعر متمكن من ناصية اللغة المعيارية، فجاءت بذلك لغته الشعرية كلغة أي شاعر فحل في القديـم، فانظـر إلى لغته الشعرية الرائعة الجميلة، إذ يقول:
ودان القصاص فرنسا العجوز
بما اجترحت من خداع ومكر
ولعلع صوت الرصاص يدوي
ولعلع صوت الرصاص يدوي
فعاف اليراع خرافات حبـر!
ويأبى الحديد استماع الحديث
ويأبى الحديد استماع الحديث
إذا لم يكن من روائـع شعري
إلى أن يقول عن غرة نوفمبر المجيدة:
نوفمبر غيرت مجرى الحياه
وكنـت- نوفمبر- مطلع فجر
فذكرتنا- في الجزائر- بدرا
فذكرتنا- في الجزائر- بدرا
فقمـنا نضاهي صحابة بـدر(8)
فاللغة الشعرية هنا هي لغة الحديد والنار التي لا يفهم الاستعـمار غيرها ، كيف لا؟ وقـد حـان وقت الاقتصاص من فرنسا، لأنها ارتكبت جرائم بشعة ، ومظالم لا تطاق في حق الشعب الجزائري!!.وهـذا نوفمبر العظيم غيَّر مجرى الأحداث والحياة في الجزائر، ومعـاركه ذكَّرت الشعب الجزائري بغزوة بـدر الكبرى،فأصبح المجاهدون الأحرار يشبهون الصحابة المجاهدين في بدر شجاعة وإخلاصاً!! هذه اللغة الشعرية، وهـذه الصـورة الجميلة التي رسمها الشاعر، لها من القوة والإيحـاء مـا يعجز اللسان عـن الإفصاح عـن معانيها: فهـذا الرصاص يدوي في كـل مكـان مـن ربوع الجزائر ، للاقتصاص من فرنسا العجوز التي تستعمل دائماً مع الشعب الجزائري أساليب المكر والخـداع منـذ أن وطأت أقدامها أرض الجزائر، فنحن أمة لا تنسَ مـا فعـلته مـع الأميـر عبد القادر،والشيخ المقراني، والشيخ بوعمامة، ولالا فاطمة انسومر، وغيرهـم كثيـر، وتلك المطالب التي رفعـت إلى فرنسـا للمطالبـة بحقـوق الشعـب الجزائري،كيف ردت عليها فرنسا؟!! فلا تكتب الاحتجاجات بعد اليوم، والسلاح يصمُّ أذنيه عن سماع الحديث إذا لم يكـن مـن الشعر الثوري التحريري الذي يحث على الجهاد والتضحية والبذل . أليسـت هذه هي اللغة الشعرية التي تبتعد عن اللغة المعيـارية في الإيحاء والتصويـر والخيـال، والعاطفـة الصادقـة القوية،والإحساس المرهف، والشعور النبيل، والانفعال المؤثر؟! .
وصفوة القول:- أن الشاعر المبدع يحطم اللغة المعيارية بطريقته الخاصة، ويحطم كل القيود التي تكون فـي طريقه، ليبتكر بذلك لغة شعرية جميلة، فلكل عصر لغته، فإذا قلنا العصر الجاهلي، فالشاعر فيه له لغته الخاصة، وإذا قلنـا العصر الإسلامي، فالشاعر فيه له لغته الخاصة أيضاً، وهي لغة تحمل معـاني الدين الجديد، وهي معان لم تكن موجودة من قبل، وإذا قلنـا العصر الأمـوي، فالشاعر فيه له لغته الخاصة كذلك،وهي لغة تشمل تلك الصراعات القوية العنيفة على السلطة،وإذا قلنا العصر العثماني، فالشاعر فيه له لغته الخاصة طبعاً، وهي لغة الانحطاط والتخلف في جميع مناحي الحياة وبخاصة الشعرية منها. وإذا قلنا العصر الحديث، فالشاعر فيه له لغته الخاصة بالتأكيد، وهي لغة العلم والاقتصاد والتكنولوجيا والانترنيت ونحو ذلك. وهكذا يمكن القول: أن اللغـة كائـن حي شأنها في ذلك شأن سائـر الكائنات الحية ، قـد تتقلص وتنقبض في وقت مـن الأوقات، وتزدهر وتتطور في زمن من الأزمان، وقد تندثر وتزول إذا تعرضت من أهلها للضياع والإهمال.
الأستــاذ: مـومنـي عبـد العـالي
ثانوية بوالروايح – قالمــة
هوامش:
1/دلائل الإعجاز،لعبد القاهر الجرجاني.
2/ المختار في الأدب والنصوص ، السنة الثانية أدبي ، ص :140
3/المختار في الأدب والقراءة،السنة الأولى أدبي،ص:218
4/ المختار في الادب والقراءة،السنة الثانية علمي،ص:95
5/ المرجع نفسه،ص:127
6/ المختار في الادب والقراءة،السنة الأولى أدبي،ص:202
7/ المرجع نفسه،ص:208
8/إلياذة الجزائر،لمفدي زكرياء،المعهد التربوي الوطني الجزائر،ص:53