هذا فن من القول دقيق المسلك، لطيف المأخذ، وهو حلقة مفقودة في تاريخ النقد العربي الحديث، ولكننا نجد لهذا النقد جذورا وأصولا في ثراتنا العربي القديم.فالنقد اللغوي كان موجودا من قبل، وحين حالت أحوال،وتحجرت القرائح ، وانطفأت المشاعل في فترة من فترات تاريخ الأمة العربية والإسلامية،ثم أخذت عروق تنبض-رويدا رويدا-في جسم هذه الأمة وكيانها، فاستيقظت من سباتها العميق على نداء جمال الدين الأفغاني ودعوة محمد عبده، وصيحة ابن باديس، إلا أن علمائنا لم يوصلوا ما انفرط بما هم عليه من تجدد وتطور وتقدم وازدهار. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نقد جديد يخلو من الحلقة التراثية، وخاصة منها حلقة النقد اللغوي.
ولعل غياب النقد اللغوي عن الساحة الأدبية في جميع الأمصار العربية ، وبخاصة في بلادنا الجزائر، من الأسباب التي جعلت لغة الأدب، شعرا ونثرا،لغة ضعيفة مبتذلة. فليس هناك نقد لغوي يساير ما يستجد على الساحة الأدبية، ناهيك عن المفاهيم الدخيلة التي أفرزت لنا كثيرا من الظواهر السلبية في جميع مناحي الحياة.
ولعل أول من اهتم بالنقد اللغوي هو عبد الله بن اسحاق الحضرمي، وهو يعد بحق أول نحاة العربية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، نلمس ذلك في نقده لشعراء زمانه وبخاصة الشاعر العربي الكبير الفرزدق الذي قال:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع لللللللللللللللللللللل من المال إلا مسحتاً أو مجلفُ (1)
وقال له عبد الله بن اسحاق: ((علام رفعت مجلف؟)) فأجابه الشاعر الفرزدق بغضب شديد وانفعال كبير: ((على ما يسوؤك وينوؤك... وعلينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا..)).
نلاحظ على سؤال عبد الله للفرزدق أن (الإقواء) في القديم غير محبوب لدى النقاد وخاصة النحاة الذين كانوا يقفون بالمرصاد للشعراء في هذا الشأن، فالنحوي عبد الله بن اسحاق لم يرض بذلك،لأنه يضعف من المعنى(مجلف). كما نلاحظ على جواب الفرزدق أن الشعراء يطالبون النقاد بمقياس معين، وهو أن يقول الشاعر كيفما شاء، وبأي طريقة كانت، ولو كانت على حساب اللغة العربية، وعلى النحوي أن يجد تعليلا أو تفسيرا أو قاعدة لذلك، مثلما كان الحال مع النحوي الكبير((سيبويه)) الذي كان يبحث عن وجه لهذه المسألة أو تلك لصالح الشاعر. فهذا المقياس الذي طالب به الشاعر الفرزدق فيه كثير من الوهم والابتعاد عن الصواب، ذلك أن عصور الاحتجاج قد انتهت مع انتهاء صفاء اللغة العربية في العصر الجاهلي، وصدر الإسلام وبداية العصر الأموي بتحفظ كبير. واللغة لها من الضوابط والأحكام الدقيقة التي تحكمها، وإلا لما قلنا أنها لغة، وهذا ما أثبتته دراسات علم اللغة الحديث.
فالمجتمع الذي لا يتفق على هذه الرموز أو الضوابط أو الأحكام لا تكون له لغة بأي حال من الأحوال.
ويبدو أن المسألة لم تنته بين عبد الله بن اسحاق والشاعر الفرزدق الذي قال في قصيدة مدح بها يزيد بن عبد الملك:
مستقبلين شمال الشام تضربهم للللللللللللللللللللللللللل بحاصب كنديف القطن منـــورِ
على عمائمنا يلقى وأرجلنــــــا لللللللللللللللللللللللللللللل على زواحف تزجى مخها ريرِ (2)
فقال له:أسأت.إنما هي((رير)) بالرفع، مشيرا في ذلك إلى قياس النحو في التعبير. ومازال عبد الله ينحى على الفرزدق باللائمة حتى جعل الشطر: ((على زواحف تزجيها محاسير)) وكانت مراجعته للفرزدق وأشعاره تغضبه، فهجاه بقصيدة يقول فيها:
فلو كان عبد الله مولى هجوته للللللللللللللللللللللللللللل ولكن عبد الله مولى مواليا (3)
ويقال أن عبد الله لم يلتفت إلى هجاء الفرزدق له، بل التفت إلى البيت وقومه، فقال له: ((ولقد لحنت أيضا في قولك: مولى مواليا، وكان ينبغي أن تقول: مولى موال)) .
وقال الشاعر الفرزدق :
وعينان قال الله كونا فكانتا للللللللللللللللللللللللللللللللللللل فعولان بالألباب ماتفعل الخمر
فقد كان بمقدور الشاعر أن يقول (فعوليْن) دون أن يختل الوزن الشعري كما ترى ، وهذا ما جعل ابن أبي إسحاق الحضرمي يقول له : (ما كان عليك لو قلت : فعوليْن) ؟ فأجابه الفرزدق قائلا : (لو شئتُ أن أسبٌح لسبٌحتْ ) ، فلما قام الفرزدق وانصرف ،سئل ابن أبي أسحاق الحضرمي عما يقصد ، فأجابهم : لو قال (فعولين ) لأخبرك أن الله خلقهما وأمرهما ،ولكنه أراد : هما فعولان بالألباب ماتفعل الخمر .)(4)
ومن هنا يمكن أن نقول:أن النقد اللغوي لا بد أن يساير النقد الأدبي في العصر الحديث. والنقد الأدبي كما هو معروف هو دراسة الأساليب وتمييزها، وبعبارة أخرى:هو دراسة منحى الأديب العام، وطريقته في التعبير، والتأليف والإحساس على حد سواء، تقول:هذا أسلوب طه حسين، وذا أسلوب العقاد، وهذا أسلوب المنفلوطي ونحو ذلك...
فالنقد الأدبي إذن هو تفسير للنص الأدبي، ثم الحكم عليه في قضايا الأدب ومشكلاته. أما النقد اللغوي فيعنى بالدرجة الأولى بتقويم اللسان وفق قواعد اللغة العربية وأساليبها، فلا ينسب الأديب - سواء أكان شاعرا أو كاتبا - صفة من الصفات إلى غير صاحبها كما حدث للشاعر العربي الكبير المسيب بن علس مع الصبي طرفة بن العبد حين مر بمجلس بني قيس بن ثعلبة،فاستنشدوه فأنشدهم:
ألا أنعم صباحا أيها الربع واسلم للللللللللللللللللللللللل نحييك عن شحط وإن لم تكلم
فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند ادكاره لللللللللللللللللللللللللللل بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال له طرفة وهو صبي –كما قلنا- وهو يلعب مع الصبيان: ((استنوق الجمل!)) والصيعرية سمة أوصفة في عنق الناقة لا البعير، فلما سمع الصبي ذلك،قال: ((استنوق الجمل)).(5)
أو يؤنث المذكر،ويذكر المؤنث،أو يصرف الممنوع من الصرف،أو يعتمد على قاعدة(سكّنْ تسلمْ)وهلم جرا.
فاللسان الصحيح هو النقد الصحيح، وكل من يعبث باللسان العربي فهذا ضرب من الوهم، فيعتقد أنه يخدم الأمة، ولكن في الحقيقة هو يهدمها من حيث لا يدري مادامت اللغة عند جميع الشعوب والأمم هي وعاء الفكر والثقافة والحضارة والتقدم والتطور والإزدهار في جميع مناحي الحياة المختلفة لهذه الأمة أو تلك.
وصفوة القول:أن النقد اللغوي يخدم النقد الأدبي، ولا ينبغي الفصل بينهما، لأن الفصل بينهما كالفصل بين الشكل والمضمون للنص الأدبي، وفصل الشكل عن المضمون من عيوب النقد الحديث، فالمدرسة الكلاسيكية انتصرت للشكل، والمدرسة الرومانسية انتصرت للمضمون، فكلاهما وقع في خطإ الآخر. ومن هنا برزت المدرسة الواقعية التي تجمع بين الشكل والمضمون، فلا تكون اللغة مبتذلة فيها أخطاء وعيوب ونقائص، ولا تكون الفكرة ضائعة وراء العبارات المنمقة الجميلة ذات الصنعة الأدبية، والحديث قياس كما يقال.
الأستاذ:مومنـي عبــد العالـي
ثانوية بوالروايح - قالمة-
الهوامش
1/الشواهد النقدية/علي بن محمد/ص:62
2/المرجع نفسه/ص:62
3/المرجع نفسه/ص:62
4/ظاهرة الإعراب في النحو العربي ،للدكتور أحمد سليمان ياقوت ،ديوان المطبوعات الجامعية -الجزائر،1983م ،ص :110
5/الشواهد النقدية/علي بن محمد/ص:11