صحو الكلام...
خير جليس عند الأنام
تعدّ الرواية في العصر الحديث من أكثر الفنون الأدبية رواجًا ونضجًا وتأثيرًا في عقول الناس، فهي عمل إرادي بالدرجة الأولى، يسعى الروائي من خلالها أن يقول شيئا للناس. وقصة أو رواية ( صحو الكلام ) للأستاذ والأديب ( عيسى مومني ) لا تشذ عن هذه القاعدة. فما طبيعة هذا العمل الجديد للأستاذ والأديب ( عيسى مومني )؟! وما هي الجوانب المضيئة فيه والمظلمة يا ترى؟!
وفحوى القصة تتجلى على لسان صاحبها في فكرة واضحة وجلية وتتمثل ــ حسبه ــ في << زوايا مضيئة في حياة طالب علم وأستاذه >> والحق أنني عندما أقرأ هذه القصة لأول مرة ذكرتني بقصة فيلسوفين عظيمين في تاريخ الإنسانية، الأول يوناني ألا وهو الفيلسوف اليوناني الشهيرة ( سقراط ) الذي يجوب شوارع ( أثينا ) ويعلم طلابه ومريده، وينشر عليهم أفكاره حتى أتهم بتضليلهم، فحكم عليه بالإعدام بسبب تعليمه (1). والثاني عربي ألا هو الفيلسوف ابن طفيل في قصته المشهورة ( حي بن يقضان ) حين نرى الفتى في جزيرة معزولة يعيش مع الحيوانات، وتعلم عنها بالفطرة الشيء الكثير، حيث ( كان يرى أنه إذا غمض عينه، أو حجبهما بشيء، لا يبصر شيئا، حتى يزول ذلك العائق. وكذلك كان يرى أنه إذا أدخل أصبعيه في أذنيه وسدهما، لا يسمح شيئا حتى يزول ذلك العارض. وإذا أمسك أنفه بيده، لا يشم من الروائح شيئا حتى يفتح أنفه، ويخلص إلى نتيجة قاطعة إذ يقول: (فاعتقد من أجل ذلك أن جميع ماله من الإدراكات والأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها،فإذا أزيلت تلك العوائق عادت الأفعال) (2).
وهو مع ذلك كله يشبه إلى حدّ ما في تأليفه (لصحوة الكلام) الأديب العربي المهجري ( جبران خليل جبران ) في كتابه المشهور( النبي ) حين يريد أن يطرح أفكارا ويعلم الناس والبشرية قاطبة، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: << العلماء ورثة الأنبياء...>>.
والحال أن الرواية العربية في العصر الحديث هي أكثر الفنون الأدبية انتشارا ورواجا من المحيط إلى الخليج، وهي أكثر الفنون نضجا، فقد سلكت أشواطا بعيدة بعيدة جدا، وقطعت مراحل طويلة طويلة كثيرا، ومن هنا ندرك أن للقصة العربية الحديثة خصائص فنية ناضجة، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها أو التفريط فيها تحت أي طائل، ومن أهم وأجل هذه الخصائص: الفكرة، والعمل القصصي من تمهيد، وحوادث، وعقدة، وحل، بالإضافة إلى شخصيات القصة، وكذلك لغة القصة من حيث السرد والحوار، وعلى الروائي أن يراعي دائما قي هذا الجانب مسألتين أساسيتين هما: ملامح الشخصية، وكيف تبدو من خلال النص، وتنوع لغة الحوار لكل شخصية من شخصيات الرواية، فلغة الطفل غير لغة الكهل، ولغة الرجل غير لغة المرأة، ولغة العالم غير لغة غير المتعلم وهكذا...
والعمل الروائي هو عمل إرادي بالدرجة الأولى، وهو بذلك يختلف اختلافا كبيرا عن الشعر، وبخاصة الشعر الغنائي الوجداني. فالروائي هنا يحاسب على كل شاردة وواردة في القصة، صغيرة وكبيرة، فيرسم الشخصيات بدقة متناهية، وكل منها يؤدي دوره بحساب، بالإضافة إلى اللغة والخصائص الأخرى، فهذا العمل يعد نسيجا متشابكا محكما، قويا متينا، فتشرئب أعناق القارئ إلى تلك الأحداث المتلاحقة لتصل به إلى العقدة، فيصاب بهالة من شعور غريب ينتابه، ولا يتوقف عن القراءة حتى يصل إلى نهاية القصة أو الرواية، سواء كانت هذه النهاية مفتوحة أو سعيدة أو حزينة!!
وانظر إلى المتعلم كيف يتأمل في الحياة والكون على خلاف عامة الناس، إذ يقول لطلبته مثلا: << هناك حفاظ للعلم يعملون بقليل منه، ويحملون كثيره دون تدبر فيه أو دراسة عميقة له... >> (4) ويقول أيضا: << حين أنظر إلى الكون أراه منسقا منظما، وحين أنظر إلى أعمال الناس أجد فوضى واضطراب >>(5).
ويقول وهو يتأمل أيضا: << حشرات صغيرة كالبعوضة والذبابة منحها الله تعالى نفس الأجهزة من قلب وتنفس ومعدة تؤدي نفس الوظائف في الكائنات الكبيرة كالأسد والفيل، وشدة التعجب تأتي من جسم صغير كيف يؤدي نفس وظيفة جسم كبير...>>(6).
واعتقد أن الأستاذ الروائي له باع طويلة في قواعد اللغة العربية وآدابها، ويتحكم في ناصيتها بيسر، وهذا الأمر يتجلى من خلال أعماله المطبوعة، ولكن لا أدري ولا أعرف لماذا يوظف التوكيد المعنوي بهذه الطريقة ( نفس الأجهزة ــ نفس الوظائف ــ نفس الوظيفة )
أنظر إليه من جديد كيف غرق في تأملاته التي تكاد أن تكون في أغلبها تأملات فلسفية، ألم يقل عن لسانه: << إنني أتسائل دائما لماذا الثمار الصغيرة كالبرتقال والتفاح والإجاص تعلق بالأشجار في علوها؟ ولماذا الثمرات الكبيرة الحجم كالبطيخ والدلاع تنبسط فوق الأرض؟ ولماذا المواضع العارية في جسم الإنسان تقل فيها شدة الإحساس، والمواضع المغطاة يكون إحساسها أشد؟ >> (7). سبحان من خلق فأبدع!!
وهكذا وقع الروائي في تلك الذاتية التي لا تعكس عواطفه، وهذا لا يعدّ مزية في الرواية قديما وحديثا، فانظر إلى ابن المقفع ــ مثلا ــ حتى لا يقع في مثل هذه الذاتية السلبية عند الكتاب والنقاد على السّواء، قال ابن المقفع في باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين: << قال الفيلسوف...>> فالروائي هنا هو الفيلسوف وليس ابن المقفع.
وقال الجاحظ في قصة معاذة العنبرية: << قال شيخ من البخلاء...>> فالراوي هنا هو هذا الشيخ من البخلاء وليس الجاحظ.
وقال بديع الزمان الهمداني في المقامة البغدادية: << حدثنا عيسى بن هشام، قال...>> فالراوي معروف هنا وليس الكاتب.
فرغم أن كل كاتب أو أديب من هؤلاء وغيرهم لم يتحدث بلسان المتكلم في نصه هذا أو ذاك، إلا أننا نلمح في كل منها عاطفة، ولهذا نفهم سبب إسناد الكلام لغير المتكلم حتى يقال بأن هذا الكاتب أو الأديب تجرد من الذاتية، حيث روى القصة على لسان كذا وكذا، وهذا لا يعني أن القصة بالكامل غارقة في الذاتية، لا ، فأنظر مثلا حين تقول على لسان الأستاذ: << لماذا نهارنا مملّ، وليلنا مضجر طويل؟ >> (8)، فلو نسجت القصة أو الرواية من البداية حتى النهاية بهذ الطريقة لقالوا: أنك تجردت من الذاتية، ونسبت القصة ورويتها على لسان فلان أو فلان.
ما شدّ انتباهي مسألة الإسقاطات المتمثلة خاصة في أحداث الساعة على الماضي وليس العكس من حياة الأستاذ والروائي، أنظر إلى قولك مثلا: << وحاصروا الفلسطينيين في غزة، فعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة. وعادت تركيا إلى الصف الإسلامي... >> (9)، وبعد ذلك تقول عن الماضي: <<حدثه عن انتخابات مكتب الطلبة... ومن يفوز برئاسته، ويضمن المنحة والأسفار والاختصاص، والدراسات العليا... >> (10).
قال الأستاذ الروائي: << فخرجت هائما أبحث عنها...>> (11)، ولعل الضمير هنا في << عنها >> يعود إلى الحكمة التي وردت في قول الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ : << الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها >> فقد وجدتها صراحة عند الإمام مالك ، وابن باديس، ومالك بن نبي، والأمير عبد القادر، والعربي بن مهيدي، والشيخ البشير الإبراهيمي، ومحمد العيد آل خليفة، ومبارك الميلي، ومن أحمد شوقي، ومن العقاد، وعمر المختار، والطاهر وطار، وحكيم يوناني، ويوغرطة، وابن القيم الجوزي، ونزار قباني، ونجيب محفوظ >> ص:82 ــ 87 . والحق أن هذا العمل يعد تجربة، وهي نتيجة ما أكتسبه الإنسان في الحياة لطول عمره أو من النظر إلى الكتب مثل: نصائح البشير الإبراهيمي إلى طلابه ومريده حين يقول: << إن الحياة قسمان: حياة علمية وحياة عملية، وإن الثانية منهما تنبيء على الأولى قوة وضعفا، وإنتاجا وعقما، وإنكم لا تكونون أقوياء في العمل إلا إذا كنتم أقوياء في العلم...>>(12).
وقال الأستاذ الروائي عن التعسف القائم ــ كما يرى ــ في الربط بين اللفظة ومدلولها: << وكيف أن لفظة (الوغى) التي كانت أصل معناها اختلاط الأحداث في الحرب كثرت وتحولت إلى أن أصبحت الحرب (وغى) >> (13). فهذا الأضراب لا يتوقف في حقبة من حقب تاريخ الإنسانية جمعاء، وأنت الذي أشرت إلى ملك فرنسا ( لويس العاشر) فطبع الذهب باسمه، فسمي عندما وعرف باسم (الويزة) وجمعه (الوزير) وأكثر من ذلك، وبسبب هذا التعسف، صار كل شيء جميل عندنا حتى الآن يسمى (الويز) بل أطلقنا على المرأة اسم (الوزيرة) للدلالة على جمالها ومنزلتهاََ!!
والأغرب من هذا كله حسب تقديري:لو سألت جيل الثورة عن (لاكوست) لقال لك فورا دون تردد:لعنة الله عليه!!وإذا قلت ذلك لهذا الجيل فيرد عليك: إنه شيء جميل!! ولا شك أنك تعرف ماذا أعني،وتدرك ماذا أقول!! وعلى الشباب الجزائري الأبي أن يدرك هذه الحقيقة،ويعرف جيدا نوايا العملاء،وأعداء ثورة التحرير المجيدة!! فالفوضى شملت حتى أسماء الأعلام،وخاصة الأعداء منهم!!
ـ قال التلميذ لأستاذه وهو يحاوره: ((أنا كطالب علم...)) فقال له أستاذه: ((دعها تقع....)) (14)، السؤال المطروح هنا: كيف تعرب (الكاف) في قولك (كطالب علم...) وماذا تفيد؟!
- استعمال أسماء الأعلام الكثيرة حتى يخيل إلى القارئ العادي أنه أمام معجم خاص بأسماء الأعلام، فقد حاولت إحصاء عددهم فوجدت صعوبة كبيرة في ذلك،
المهم أنها تتعدى (تسعون) أسما ناهيك عن تكرار بعضها؟!
ـ بالإضافة إلى كثرة استعمال مصطلحات اللغة العربية وآدابها كالمجاز والاستعارة والكناية والمجاز المرسل، وبعض المحسنات البديعية حتى تصل إلى مصطلح وتسمية (التناص) فالقارئ من عامة الناس لا يفقه في هذا المصطلح شيئا، ولا يعرف أنه كان يسمى عند قدماء العرب ((بالسرقات الأدبية)) وبخاصة عند كبار الشعراء من أمثال أبي الطيب المتنبي حين كان في بلاط سيف الدولة الحمداني، وكانت بينهما جفوة بسبب وشاية،في حضرة العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وألقى عليهم،وعلى سيف الدولة، قصيدته المشهورة في تاريخ الأدب العربي ((واحر قلباه)) وبقية القصة معروفة، فلا داعي لسردها من جديد.
وانظر إلى الشاعر العباسي الكبير بشار بن برد حين يقول له رجل: يا أبى معاذ، إنك لتجيء بالأمر المهجن، تقول مرّة:
إذا ماغضبنا غضبة مضريّة هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ذرا منبر صلى علينا وسلما
ثمّ تقول:
ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
فيقول له بشار: كل شيء في موضعه. وربابة هذه جارة لي، وأنا لا آكل البيض من السوق، فربابة هذه عندها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع هذا البيض وتحضره لي، فكان هذا من قولي لها أحبّ إليها، وأحسن عندها من:
((قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)) (15)
والرواية جديرة بالقراءة من طرف خاصة الناس قبل عامتهم مما اشتملت عليه من معلومات ومعارف ومصطلحات وأسماء لا يدرك أغلبها إلا خاصة الناس، وهذا على خلاف (الأيام) و(حياتي) ونحوهما من السير الذاتية التي يقرأها الخاصة والعامة على السواء!!
فمزيدا من القراءة والمطالعة على الرواية العربية عامة والجزائرية خاصة لتدرك نسيج هذا اللون الأدبي الجميل الذي أصبح يتصدر الرّيادة في جميع مناحي الحياة الأدبية الشعرية منها والنثرية!! بل تتصدر جميع الفنون الأخرى كالموسيقى والنحت والرسم ونحو ذلك!!
فألف ألف مبروك على هذا المولود الجديد الذي سيكون ــ لا محالة- ميلاد لعشرات الروايات حاضرا ومستقبلا بإذن الله. والله الموفق.
الأستاذ: مومني عبد العالي
قالمة في:24 نوفمبر2010